" لقد قدمت الحركة الحديثة في الفن مفتاحا قويا للعالم بعد إنتهاء الحرب وإستمرار التهديدات بالحرب النووية, إن الإضطراب والغموض اللذان يكمنان في التكعيبية والتجريدية كما في السريالية قد نجحوا بتذكيري بطفولتي في شنغاي والزمن الجميل "
J.G.Ballard الكاتب الإنكليزي جيمس كراهام بالارد
الفنان دايفيد تيشاوت أمام أحد أعماله المقتناة من قبل مجموعة متحف فرحات David Teachout infront of one of his artworks |
لا يمكن اختصار تجربة الفنان الأميركي دايفيد تيشاوت David Teachout التجريدية بعجالة عابرة، فهذا الفنان الذي أنهى خدمته كطيار في الجيش الأميركي سنة 1950 والذي كانت أهم مهامه التدريبية إتقان إلقاء القنابل الذرية من الطائرات الحربية ,عاد الى وطنه الأم, تحديداً الى كارولاينا الشمالية وذلك لينهي دراسته التي نال فيها شهادة الباكالوريوس في هندسة المناظر الطبيعية والتي إكتشف من خلالها حبه وإدراكه للشغف الفني النائم منذ أيام الطفولة. وإثر هذا الإكتشاف وخلال مزاولته مهنة التدريس قرر تيشاوت التخلي عن عمله ومهنته في هندسة الديكور للإنتقال الى مسقط رأسه في كاليفورنيا للتفرغ للفن والفن فقط
دايفيد تيشاوت , مجموعة السقوط , من مجموعة متحف فرحات |
Dripping تبلورت في أوائل السبعينات أولى المراحل الفنية لدايفيد تيشاوت عبر تقنية «السّكب» إحد أنواع التجريدية التعبيرية كطريقة تهدف إلى تجسيد حركة الفنّان في إطار يتميّز ببعد علائقي متناغم بين جسد الفنان والفضاء: سيرورة تجسّد نبضات الفنّان أثناء حركته في علاقته بالأثر الذّي يحتوي الشّكل
أنّه «لا يحدث في اللوحة صورة وإنما حركة»، قد يجد البعض في لوحاته مجرد «شخبطة» بالألوان، في مقابل ممكن أن تنشأ دراسات وأبحاث تتحدث عن فلسفة اللون فيها والحركة والتقنية الأسطورية. فهو كان يهدف إلى التعبير الفني بعيداً عن سيطرة الوعي. كان يحدث عن طريق تحريك الفرشاة المحملة بالألوان، حركات عضلية عشوائية على سطح اللوحة فتنتج شخبطة أو بقعاً تعبر عن حالات انفعالية، ولا يتوصل إلى تحليلها إلا الخبراء في علم النفس والمتعمقون في مدارس الفن المعاصر.
دايفيد تيشاوت , من مجموعة السقوط 1972, من مجموعة متحف فرحات |
لقد دخل تيشاوت في تجربة حركية مطلقة باضطراباتها ودوخاتها وإشراقات ألوانها المشدودة إلى قوة الحركة. إنها لحظة وجْد ينبثق فيها كل شيء في حلم يقظة، في إيقاع وارتجال يذكر بحركية موسيقى الجاز، خصوصاً أن الجسد يقوي من دوره كوسيط بين الفنون...
لم تأت هذه اللوحات التجريدية من فراغ، بل هي انعكاس لزمنها، فعندما رسمها تيشاوت، كانت أميركا في لا تزال تعاني آثار الحرب العالمية الثانية ونتائجها وإرهاصات «الحرب الباردة». هذه من بين العوامل التي دفعت بولوك وأقرانه من الفنانين إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف، وبدا أن الرسم التجريدي أحد أشكال المواقف الراديكالية من الواقع، وكان رواده يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادراً على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية .كما نلاحظ لدى الفنان عملية السكب لديه خاصة في مجموعته التي أسماها " مجموعة السقوط"تكون الحركة دائما من الأعلى إلى الأسفل, وهذا ما يذكرنا بمهامه العسكرية التي كرهها خلال صباه, وهي التمرين على إلقاء القنبلة الذرية فربما هذه المرحلة كانت مرحلة علاجية ل"اللاوعي" عنده ليحل اللون والفرح واللانهائية لسقوط الألوان وتلاقيها مكان القتل والإرهاب .
دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات |
في أوائل الثمانينات من القرن الماضي بدأ الفنان بمرحلة جديدة وهي الأكثر وعياً ودراسةً ليكمل طريق الغنائية اللونية لكن هذه المرة عبر صياغة هندسية وتقنية عالية الجودة, فمن نافذته إتخذت شكل المستطيلات والمربعات عذرا للغوص في أزرق السماء وما يشاغله من عناصر هندسية تسبح في الفضاء والتي تتكون عبر صياغات تأليفية مليئة بالتنويع في السطوح في مجموعتة التي سماها "سانتا كروز" والتي تحمل اسم مدينته في كاليفورنيا
يتكون التجريد الهندسي Geometric Abstraction للفنان دايفيد تيشاوت عبر عمليات المحو وتبديل العناصر من خلال اعادة الرسم في طبقات مختلفة(Pentimenti-Erasures-Emendations) ومن ثم تحسينها مرة عن مرة, فالعديد من لوحاته تحتوي ذات العناصر : سقالة من الخطوط والأشرطة تتداخل في الفضاء ضمن ألوان تحجب بعضها البعض عبر الطبقات , الواضح والبديهي هنا تأثير فن العمارة الجميل وذلك يظهر بالبنية التأليفية والتصميم العام القوي, ولكن ما يناقض الجمود يظهر من خلال النسيج اللوني الحساس والمليئ بالعبث ليمزج القوة بالحساسية النفسية الجذابة, ليكشف بدوره عن صوفية كامنة لدى الفنان تذكرنا بصوفية الزخارف التجريدية الهندسية في الفن الإسلامي.
دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات |
إن دايفيد تيشاوت المولود عام 1933 في كاليفورنيا لم يكرس تجربته الفنية للإستفادة المادية أو التجارية, فهو لم يخض الطرق التجارية طوال حياته الا انه كرس نفسه لتطوير قدراته الفنية داخل الإستديو وبعيدا عن تدفق الأموال الذي رافق معاصريه من الفنانين الشهيرين أمثال بول جنكنزPaul Jenkins ,ريتشارد كليفورد ديبانكورن Richard Clifford Diebenkorn ,جاسبر جونز Jasper Johns وغيرهم من الذين عرض معهم في أهم الغاليريات في أميركا كغاليري كوركوران Corcoran Gallery of Art في العاصمة واشنطن , كما أنه شارك بالعديد من المعارض الفنية في أميركا من سنة 1965 وحتى سنة 1989 ,ومن ثم ليكتشفه متحف فرحات في الثمانينات من عمره ويقتني العشرات من أعماله المهمة لتضاف الى مجموعة الفن الغربي .
للمزيد من الأعمال الفنية إضغط على الرابط التالي
دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات |