لا المسار الشخصيّ، المهنيّ الفريد الذي اختطه دايفد تيشاوت David Teachout (ولد عام 1933) طيّاراً في الجيش الأمريكي حتى عام 1950، وتدرُّبه على رعب القنابل النووية، ودراسته وتدريسه للديكور، ولا المواقف المعارضة للحروب، خاصة حرب فيتنام، كافية لتفسير مساره التشكيليّ، والصفاء الشكليّ التجريديّ الذي تتسم به لوحاته منذ وقت مبكر.
وإذا ما شكلت "التعبيرية التجريدية" خلفية قوية للفنان منذ عام 1963، فإنه يتوجب فهم الدوافع البلاستيكية والسياقية لهذه الحركة من أجل فهم المسارات اللاحقة التي تمخضت عنها في أعمال فنانين أمريكيين، تيشاوت من بينهم.
لم يستطع الفنانون الأوربيون، السورياليون خاصة، المقيمون في أوربا من سنوات الأربعينيات مثل أنريه ماسون André Masson وروبيرتو ماتتا Roberto Matta توطين حَرْفيّ محض لخبرة ومعطيات السوريالية أو التكعيبية مثلما اختُبِرتْ وأُنجزِتْ في القارة الأوربية. كان الفنانون الأمريكيون يستلهمون من تلك الخبرات أمراً جديدا، وشكلت بالنسبة إليهم محرّكاً داخلياً، نجمت عنه تجارب مختلفة حاولت المزاوجة بين ما لم يُفكِّر الرسّامون الأوربيون إلا قليلاً بمزاوجته: "التعبيرية" التي ظن البعض أنها صارت من إرث الماضي القريب، و"التجريدية" التي صارت راسخة الجذور في التجربة التشكيلية العالمية. من هذين القطبين طلعت بشكل أساسيّ مدرسة نيويورك école de New York، طريّة، مثقلة بمقترحات جديدة سيكون لها فيما بعد تأثير كبير على الفن المعاصر في العالم. لقد انقسم فنانو مدرسة نيويورك إلى اتجاهين شكليين متكاملين وإن ظهرا متفارقين: رسم إشاري gestuelle ورسم أقرب للنزعة الهندسية. الأول اقترَحَ، انطلاقاً من المفاهيم النظرية، في الأقل، للاوعي والآلية السوريالية "فعل الرسم action de peindre" موضوعا لفن التصوير، حيث سيكون للجسد الآدمي الذي يقوم بعملية الرسم عبر وضعيته الفيزيقية في لحظة الخلق وإشاراته وهواجسه غير المرئية، دور حاسم. وأبرز من يمثل هذا الاتجاه بالطبع جاكسون بولوك Jackson Pollock عبر تقنية التقطير dripping التي تُلخِّص هذه العلاقة مع المعالجة الإشارية، كما لدى رسّامين مثل وليام كوننغ Willem de Kooning وفرانتس كلين Franz Kline وهانز هوفمان Hans Hofmann وروبيرت ماثيرويل Robert Motherwell، مع فوارق أسلوبية شخصية كبيرة.
عندما كان دايفد تيشاوت عام 1963 يرسم أوائل أعماله التعبيرية التجريدية، كان بولوك قد قدّم عام 1942-1943 مقترحات أولية لتجربة التقطير، ستتطور منذ منتصف الأربعينيات والخمسينيات في لوحاته المعروفة اليوم. أعمال دايفد تيشاوت الستينية ليست في المسار الشكلي والتقنيّ نفسه، وتنحو، على المستوى الكروماتيكي باتجاه العجينة اللونية pâte الموضوعة بشكل كثيف ومسطَّح على السطح التصويري.
أما الاتجاه الآخر، الهندسيّ بدرجاتٍ، في مدرسة نيويورك فهو التصوير على مساحات ملونة (color field painting) حيث الإصرار على تنفيذ أعمال أحادية اللون monochromes تقريبا، لا علاقة لها بعد إلا بعلاقات لونية مُحْكَمَة، وليس العالم الموضوعيّ، حتى لو تمثلت مفاهيم محددة، كونية وصوفية. كان يمثل، بشكل خاص، هذا التيار مارك روثكو Mark Roth وبارنيت نيومان Barnett Newman وكليفورد ستايل Clyfford Still.
لعبة الورق الشرقية 1967-1968 , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات |
سيتموضع عمل تيشاوت بين هذين القطبين الجوهريين، طيلة مسيرته. أعماله في سنوات الستينيات هي مسعى لأمرين: التملُّص النهائي من بقايا التشخيصية، أي الهجر النهائيّ للأثر المحاكاتي الخفيف، من جهة، ومن جهة أخرى، هي تمرين على الهندسيّ المُصفّى من كل شائبة. ففي سلسلة أعماله اللاحقة "لعبة الورق الشرقية The Oriental Card Games" ( 1967-1968 زيت على القماش) ثمة انسلاخ كامل إلى تجريدية هندسية لا يمكن أن تُفهم بدقة من دون معرفة أنها مستلهَمة من ألعاب ورق الشرق الأقصى: هناك لعبتا ورق، الأولى يابانية على بطاقاتها صور وعبارات شعرية أو قصائد، مع جسرين (تسمى Uta-garuta). والثانية تسمى هانافودا Hanafuda = لعبة أو حرب الزهور، حيث على البطاقات صور زهور الفصول، وتُلعب في هاواي أيضا، ويمكن أن يكون الرسام قد تعرف عليها أثناء إقامته هناك. وهي مزينة بأسلوب الفن الصينيّ. سلسلة لوحات الرسام تقوم على أساس شبكة من المربعات التي وقعت معالجة كل واحد منها بدرجات لونية مختلفة، بحيث يمنح مرآها العام الانطباع أننا أمام نسق هارموني gamme متماسك.
يتخلى الرسام في سلسلة السوكل (The Soquel Series) عن الشبكة، ويصير المربع مبدأ أيقونياً جوار الخطوط العمودية المستقيمة التي تثير في بعض الأعمال ذكريات الفن البصري optique. وإذا ما تعلق الأمر بقرية سوكل Soquel في كاليفورنيا، فبإمكاننا الافتراض أن المربع هو محض تجريد لعنصر معماري من المنطقة، أو تكثيف تجريديّ لمشهد معماري فيها. أحيانا يظهر خليط من الأزرق والبني الفاتح والأمغر المنطفئين كأنها، دون أن نكون متأكدين، إحالة إلى مادة زجاجية معمارية أيضاً. الأكيد أن فعل الرسم هو الشاغل الحقيقي للرسام، وإن المنحى الذي يتجه إليه يذهب إلى الجوهريّ الواقع، هذه اللحظة، في الشكل الهندسيّ المختلط مع اشتغال كروماتيكي مدروس بعناية.
لكن الرسام يعود بين الأعوام 1972- 1974 إلى التقطير، كأنه يبرهن لنا أن تأرجُحه بين القطبين المؤثرين المذكورين، كامن بعمق في مكان عميق من ذاته. إن تسمية "التجريدية التقطيرية Dripping Abstraction" هي العنوان العريض الذي يختاره تيشاوت لأعمال هذا العام. لكن هذا التقطير ينطوي بغموض على جميع العناصر الشكلية السابقة التي اشتغل عليها الفنان، ولا يتابع تجارب روّاد التقنية الذين كانوا فيها يضعون للإشاري مكانة كبيرة، لأن بعضهم كان يمارس نوعا من التناضد juxtaposition اللونيّ، الخارج من التقطير وحركة أجسادهم في آن واحد.
لو فهمنا الإشاري بمعنى كثافة حضور الفعل الفيزيقي للرسام وانطباعه الخفيّ في لوحته، فإن تقطير تيشاوت يمنح للإشاري كثافة أقل، وأكاد أقول حضوراً محسوباً، إذ أن سيلان اللون من الأعلى للأسفل في الغالب في جل لوحات هذين العامين، يعني أن الإشارة jeste كانت مقتضبة ومحسوبة من أجل أن تمنح تأثيرات معينة: خلق خطوط متوازية. إذا كانت خطوطه الهندسية المتوازية في الأعمال السابقة تمتاز بالصرامة، فإنها ترتجف هنا ولا تذهب نحو مساقطها الشاقولية المحتّمة، بل ترقص في الفضاء التصويري، وتخلق نوعاً من النظام الفوضويّ الذي هو الاسم الآخر للبلاستيكية. في هذه الأعمال ثمة محاولة للسيطرة على الصدفويّ وتطويعه لرؤية الفنان المقيمة.
سوف ينحدر تيشاوت من المنظر الكلي إلى الجزئي في أعماله التي تحمل العنوان (نوافذ Windows) 1983-1984. هنا ثمة قطيعة ضمن هذه الاستمرارية القطبية. وثمة في الغالب عودة إلى النزعة الهندسية التي تقطع فجأة من تجربة التقطير السابقة. عنصر واحد يبرز في هذه السلسلة من اللوحات، يعزز بقوة الاعتقاد أن بعض عناصر سلسلة السوكل كانت تقع في النافذة ولا شيء سواها. لقد كانت النافذة هناك غائمة ومغيَّبة المعالم قصداً. هنا تحضر النافذة وحدها بصراحة، في الأقل عبر العنوان الممنوح، لكن الأعمال نفسها قد تقول إن هذا الموضوع ليس سوى ذريعة لعملية الرسم. عموماً يقدّم تيشاوت، بين الأمغر (الأوكر) والأزرق، دراسة للفضاء التصويري الذي يتخذ من النافذة منطلقاً له. تصير النافذة "جغرافيا تشكيلية" يضع فيها الرسام خبرته الأكاديمية، وتجربته العملية المتعلقة بهندسة عمارة البيئة Landscape Architecture (بالفرنسية L’architecture du paysage). النافذة هي البيئة كلها. أنها تضمّ نوعاً من "تخطط معماريّ" يستجلب جماليات المدينة بكاملها. إنها موقع site مثاليّ لفن الرسم وبيئة environment للرسام، وهي تمنح المناسبة الثمينة حتى لانعكاس المخططات المدينية urban البعيدة على زجاجها. لكنها قبل ذلك كله، وبالتوازي معه، سطحٌ تصويريٌّ عليه كل معضلات الرسم المخصوصة وهواجسه ومفاهيمه.
بألوان أقل توهجاً، يمضي الرسام بتجربته في سلسلة سانت كروز (The Santa Cruz Series) الممتدة بين الأعوام 1984-1989 والموصولة تلقائياً بالسلسلة السابقة، موسِّعاً من حقل الرؤية وهو يقلب هذه المرة بشكل ديالكتيكي أولوياته فينطلق من الجزئي إلى الكلي، مستحضرا دائما خبرته في عمارة البيئة. هنا ثمة انعكاس ضوئي خافت واقع على عناصر معمارية وبيئية ومدينية بالأحرى، نحدسها ونتخيلها ولا نراها صريحة. بعضها مناظر طبيعية تخلصت من جميع ما يمنع من رؤية طابعها الجوهريّ ومن تلمُّس الألوان القليلة المسيطرة عليها، هذه اللوحات تحديق طويل واختصار لتفاصيل طبيعية أو معمارية وقعت عين الفنان عليها، فظل يصفّي ألوانها إلى الأساسيّ، ويعيد خاصة تركيب درجات هذا الأساسيّ على سطح هندسي منتخَب يمتاز أحيانا بالتناظر المكتمِل مرة، وغير المكتمل مرة، وبلعبة انعكاس المرآة. لعبة المرآة والتناظر هذه، مشغولة باللونين الأزرق والأخضر الموضوعين بحساسية على يد تيشاوت. ومن أجل إطفاء الهندسية الرياضية أدمج الرسام بعض الخطوط lines والخطوط الخارجية outlines الحرة في ثنايا الأعمال.
بين هاته المحطات الكبرى في عمل الرسام الأمريكي ثمة محطتان أخريان تتوجب الإشارة إليهما: سلسلة الدائرة The Circle Series عام 1968، وسلسلة الموج والرياح 1985. السلسلة الأولى تتميز باكتمالها الهندسي وإحالاتها لمعاصري الرسام ومجايليه أو أسلافهم الأوربيين الأقدم قليلاً (كاندنسكي، دولوني). والسلسلة الثانية بقلقها البحثيّ. أحسب أن تيشاوت يسعى إلى التنبيه إلى أن الدوران المحوري الأزليّ للدائرة يمكن أن يتزحزح عبر قوة موجِّهة vector: اللون، وهذا الأمر قد يذكر بتحليل كاندينسكي للعلاقة بين الشكل واللون، لكن السلسلة، حسب رأيي، تتبقى في إطار التجارب الدائبة التي كانت تتلمس النتائج التي توصل إليها تيشاوت لاحقاً، وفيها لا نرى في الحقيقة حضورا للدائرة. بينما سلسلة الأمواج والرياح، فإنها تود تفكيك الحركة التماوجية إلى عناصرها الأولى عبر رسومات صارمة قام بها الرسام (تتشابه مع الرسوم المقدَّمة عادةً لشرح فكرة "زمكان" النظرية النسبية) ثم إلى العناصر الأكثر انفلاتاً، كالغيوم التي تقوم على تكرار عنصر طافٍ بعينه. كلا السلسلتين تشتركان، رغم تباعدهما في الزمن، ببحثهما عن مفهوم وتفكيك الحركة بإطارين شكليين متفارقين.
أن نتائج سنوات نهاية الثمانينيات تستثمر هذه الاختبارات كلها، وتضعها في إطار صار شخصياً، يتميز بالرصانة والتعقيد، والصوت الخافت العميق، سواء على المستوى الكروماتيكي أو مستوى الموضوعات المُنتخَبَة كذرائع لفعل الرسم. يبدو هذا الفعل جذريا بالنسبة للرسام قبل أي أمر آخر، ألا تراه يقول عام 1983: " هناك فكرة عن الرسم، ثم هناك هذه الرسم. الرسم لا يمكن أن يكوْن هو الفكرة عنه، ولكن يجب أن يصبح تجسيداً وتعبيراً وتمظهرا مادياً للإلهام الأصلي"*
*
[ There is the idea about the painting, and then there is the painting. The painting cannot be the idea about it, but must become an embodiment, and expression, a physical manifestation of the originating inspiration.] David Teachout