يسجل جميل ملاعب يوميات العيش، فيتجول بين دول ومدن وأرياف، يصورها بريشة تبتعد عن اللغة السياحة والأهداف الاستشراقية، مجسداً فيها تحولات الزمن من خلال تكثيفه في مساحة اللوحة، من دون أن يقف عند مدرسة تشكيلية أو يتعصب لتيار. كما يرسم «الجميلات النائمات» وعاريات البحر، ويحمل ريشته إلى القاهرة ودمشق وبغداد والدار البيضاء وسواها، ليلونها بأسلوب حرّ وتلقائي، يتنقل بين التقنيات التشكيلية وتقنيات الألوان والأساليب من دون الاعتماد على قواعد صارمة، إذ تجتمع خبرته الطويلة في معالجة الألوان وثقافته الفنية المنوّعة وآراؤه في الفن والحياة، لتنتج عملاً فنياً تظهر فيه بصمة فنية واضحة.
كانت له تجارب في رسم الحروب، معظمها بالأسود والأبيض، لا سيما تلك التي هزت لبنان أو فلسطين، وقد نشرها في ثلاثة كتب، ثم يخرج من تلك اللغة الكابوسية باحثاً عن جماليات الطبيعة والإنسان ومفارقات حياة المدينة والبداوة، في مجموعة من الأعمال التي صدرت في أربعة كتب أخرى. وعلى أبواب معرض جديد يقيمه في غاليري «جانين ربيز» بين 23 شباط الجاري و23 آذار المقبل، أجرينا معه هذا الحوار حول كتبه وفنه وآرائه في تجارب الشباب والفن المعاصر ودور النقد.
كانت له تجارب في رسم الحروب، معظمها بالأسود والأبيض، لا سيما تلك التي هزت لبنان أو فلسطين، وقد نشرها في ثلاثة كتب، ثم يخرج من تلك اللغة الكابوسية باحثاً عن جماليات الطبيعة والإنسان ومفارقات حياة المدينة والبداوة، في مجموعة من الأعمال التي صدرت في أربعة كتب أخرى. وعلى أبواب معرض جديد يقيمه في غاليري «جانين ربيز» بين 23 شباط الجاري و23 آذار المقبل، أجرينا معه هذا الحوار حول كتبه وفنه وآرائه في تجارب الشباب والفن المعاصر ودور النقد.
جدارية سجن الخيام مجموعة متحف فرحات |
أصدرت 7 كتب تضم أعمالك الفنية حتى الآن. هل الهدف من ذلك نشر ما لم تعرضه في الصالات؟ ثم ماذا ترى في الكتاب: إكماله مهمة الصالة؟ ضرورة توثيقية؟ أم أنه لا يغني عن وجود اللوحة في صالة أو متحف، ولا يوثق بطريقة تحفظ قيمة العمل الفني؟
- صدف أنني في عامي 1976 و1977 أنجزت رسوماً كثيرة بالأبيض والأسود، نشرتُ منها في الصحف اللبنانية، من بينها «السفير» و«الأنوار» و«البناء». وصدف أن التقيت رفيق شرف العام 1977، فقال لي اجمعها في دفتر ففعلت وأسميته «دفتر الحرب الأهلية». هو اختار العنوان، وعارف الريس رآه فكتب مقدمة له، وكان أول كتاب رسم يطبع عن الحرب الأهلية اللبنانية. ثم عملت كتاباً ثانياً بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان هو «قريباً من الوطن». وكنت بدأت إنجاز مجموعات حفر منذ العام 1970، تناولت فيها الاعتداءات الإسرائيلية، وكانت لديّ مجموعة ثالثة وهي محفورات بالأبيض والأسود، عرضتها في غاليري «إيبروف دارتيست» تحت عنوان «آخر الظلام أول الفجر». أما الكتب الجديدة الأربعة فأنت رأيتها.
هدفي من الطباعة هو توثيق الأعمال ضمن مجموعات تصل إلى الناس، مثلما تصل الأغنية وديوان الشعر. تعودت الفكرة، وصارت جزءاً من تجربة خاصة. لم أتسرع في ذلك، إنما أنطلق من رؤية تراثية واقعية، فيها نقل تجربة ومعاناة إنسان، وفيها فتح آفاق تجدد في المادة والموضوع، فيكون عملك شبيهاً بالحدث والكلام والأكل والفصول.
أيضاً، في البلد لا يوجد متحف وربما لن يوجد، فالفنان يهمه أن يجمع أعماله في مساحة ما. الكتاب يحفظ جزءاً من مشاهداتنا وحضورنا حتى كل الأجيال تستطيع قراءة عملنا. الطالب لا يستطيع شراء عمل فني، والمعارض الجماعية تكون عابرة، وذات مستويات متفاوتة. في الكتاب تكون مسؤوليتي أمام عملي واضحة. إذا أصدرته الدولة يكون منحازاً ومفشكلاً ومطعوناً بالعائلية والطائفية. في كتابي أكون حراً تقنياً ونفسياً وفكرياً وحضارياً ومستقبلياً.
أنت تطبع على نفقتك الخاصة؟
- نعم، وطباعة الكتاب الفني مكلفة كما تعلم. أطبع من دون رعاية أحد، وأقدّم الكثير من النسخ كهدايا.
التنوع التقني في أعمالك هل هي رغبة موسوعية أم انجراف عفوي؟
- عندما كنت طالباً في معهد الفنون تعلمت مواد عدة. كل مادة لها تاريخ ومناخ وحساسية. عندما اشتغلت حفر أحببته، وكذلك عندما استخدمت الغواش، وهي مادة يسهل نقلها في السفر. النحت كتجربة كانت معايشة للصخر في الضيعة.
أخذت جائزة النحت في متحف سرسق العام 1967، قبل دخولي الجامعة. مادة الموزاييك تراثية لها أساس في المنطقة، والاختزال فيها مهم جداً، هي مادة لها إحساسها وجمالها وروعتها. في بلادنا نستخدم التراب والحجر والخشب، لكن الموزاييك تجربة مادية لصناعة العمل الفني. ثم لا بد من المطبوعة الخشبية للتعبير عن الحرب. في اللون الأسود للمطبوعة الكثير من التعبير الذي يصعب استبداله بمادة أخرى.
أنا استخدمت كل هذه المواد من دون أن أشعر بأي مفاجأة. ابتعدت عن مادة الزيت بسبب خطرها الصحي، لأنني كنت أصاب بتحسس منها. الآن لم تعد هناك مشكلة. من خمس سنوات أزاول استخدام مادة الزيت براحة وشغف. لكن في المراحل التي كنت أتنقل فيها لم تكن مادة الزيت عملية، كان من الصعب وضع مادة الزيت أمامك ولوحة كبيرة، لذلك كان استخدامي مادة الغواش هو الرائج.
حالياً ماذا تفضل؟
- الزيت.
التجريد والواقعية
في لوحاتك التي تصور فيها مشاهداتك تعبر عن دهشتك بالطبيعة. هل يقف الفن هنا برأيك أم يتخطى ذلك إلى صنع الدهشة أيضاً؟
- أعتقد أنني رسمت التجريد والواقع. الاثنان متوازنان، في الواقعية تجريد وفي التجريد واقعية. أطمح إلى أن يكون عملي أكاديمياً وكلاسيكياً وحتى تقليدياً. لذلك أحاول العودة إلى الواقعية الصعبة، الواقعية التي تحمل التاريخ والتراث والتجربة اليومية والمعاصرة، أركز على الشكل والخط واللون المحلي واللون الحسي الإنساني العاطفي.
حتى لو رسمت بالأبعاد الكلاسيكية الواقعية أرفع اللوحة من تاريخيتها إلى اللحظة المباشرة. لا أخاف ألا أكون فناناً حديثاً، لأنني أعيش لحظات إنجاز العمل.
وبالنسبة إلى موضوع المشاهدات؟
- يهمني دائماً المشهد الذي ليس فيه زمن، لا ماضٍ ولا حاضر. لذا تشدني مشاهد الإنسان الذي يعيش في الطبيعة. المرأة التي في الخيمة يمكن أن ترجعنا إلى 400 سنة، وفي لحظة تعيدنا إلى الحاضر. يدهشني تكثيف الزمن في اللوحة. أتحدى الزوال بالعمل الفني. العتمة والطير والشجرة والصخرة تجعلني ألجأ إليها لأنها أبدية. أنا مشدود إلى المشاهد التي لم تتغير، الفلاح، الطير والحيوان عموماً.
بطريقة لا شعورية أحارب العولمة غير المنظمة التي لا تحترم الطبيعة. أحارب الموضة التجارية التي تأخذ من الإنسان فلوسه وروحه وتتركه فارغاً، وتبعده عن تراثه وأرضه وعن الطبيعة والتاريخ والثوابت الحضارية وجسمه وصحته وأكله وشربه، وتقربه من الملوثات المادية والفكرية والثقافية. الإنسان الصامد في أرضه ثابت، وكذلك البيت ومواد الأكل والعمل. كلما ابتعدنا عنها صرنا في خطر. بطريقة غير مباشرة أشعر بأن عملي في هذه المواضيع طموح إلى إنقاذ الإنسان من ذاته الخطرة.
وإن كنت أختار مواضيع معينة لكنني لا أختار الموضوع بل أبحث عن شيء يشبهني أنا ولا يشبه أحداً سواي. المهم طريقة معالجة الموضوع. كل الفنانين يرسمون المنظر الطبيعي والفولكلور اللبناني، لكنني أحب رسمه بطريقة قوية وتجربة خاصة قوية وصعبة ومعقدة وواضحة وتشكيلية.
في أحد كتبك تتذكر ما قاله لك أحد أساتذتك «إن دور أستاذ الفن تحذير طلابه من التيارات العابرة التي لا تعبر عن الطبيعة والتراث والوطن». كيف يمكن أن نعمل ثورة أو تغييراً في الفن اليوم؟
- بعض الأساتذة كانوا يعتبرون أن الفن المعاصر والتيارات التشكيلية، خصوصاً في أميركا، خطرة على الفنان، وبالفعل هي كذلك، لأنها ليس فيها عمق. يجب ألا نغمض عيوننا عن الأشياء المهمة مثل مدرسة باريس والتأثيريين والتكعيبيين أمثال براك وماتيس، في الوقت ذاته يجب ألا نعيد الشكل ذاته، الشكل الذي نعمله يجب أن نخص به ذواتنا وتراثنا. وفي التجربة الأميركية بولوك، جاسبرسوغ مادروبلك، جورج سيغال، هؤلاء محطات يجب معرفتها حتى لا نعمل ما يشبه تجاربهم. أمجّد المدرسة السوفياتية الواقعية التعبيرية في الفن. أعجبت منذ سنتين في موسكو بالتجربة السوفياتية التي شاهدتها، خصوصا في النحت. مادة البرونز هناك كانت أهم تجربة حضارية فنية قام بها الفنان السوفياتي.
ممّ تحذر تلاميذك؟
- أقول لهم لا ترسموا التجريد، هو يأتي وحده، مثل الشعر، لا تكتب الشعر الحديث إذا لم تكن تجربتك قوية. المسيرة تفتح طريقها مثل الجداول أيام الطوفان. لا شك في أن المجلات الأجنبية التي نستوردها تضيّع الطلاب. نجد لوحات فنية مطبوعة إلى جانب لوحات بيكاسو، يفكرون أن ذلك مهم. هذه اللوحات تضيع الطلاب ويتركون المدرسة الواقعية، ويفكرون أن الفن موجود في هذه المواد الجديدة. إن واجبنا تحذيرهم من أن يتعرفوا على الغش. التجربة تحتاج إلى قواعد وممارسة في الرسم والتأليف والمادة.
نحن كالأوعية المتصلة
أنت تقول إنك عندما تنغمس في الطبيعة والرسم لا يبقى وقت للأسئلة. كيف يمكن أن تتطور ثقافة فنية بلا أسئلة؟
- العمل الفني هو سباحة وبحر ليس له أعماق. عندما تسبح لا تعود تشعر بجسمك. عندما تدخل في اللوحة تدخل في نشوة أبعد من السؤال عن الرأس والجسم والعقل، فهذه كلها تتوحد مع المادة والضوء والصوت والشكل، ويتوقف التفكير، ويصبح اللاوعي هو الذي يقود المسير الفني. أنت في حالة تشبه التأمل والتصوف، وفي مثل هذه الحالة فقط تستطيع أن تخترق الجليد. هنا يكمن السر، وتمّحي الأسئلة، ولا يعود يهمني رأي الآخرين. عندما أصل إلى نفسي أصل إلى الآخرين. نحن كبشر في لاوعينا كالأوعية المتصلة. كل إنسان موصول لاوعياً وحلماً بعالم السحر والفن والجمال والشعر. لكن هذه اللحظات قليلة في حياتنا، لذلك نحن نمجد الثقافة التي هي الوسيلة الوحيدة التي توصلنا إلى الأعماق وعالم الإبداع وعالم اللازمان واللامكان. عالم الخلود. وليس مهماً أن يكون العمل لفنان فرعوني أو صيني أو عربي، نحن موحدون بالرؤيا الكونية والإنسانية، لنا لغة موحدة بالإحساس البشري والوجودي والشعري، الذي يوقفنا أمام حقيقة واحدة أننا نعيش على هذه الأرض، ونرفد عملنا بالفن، لنخفف من قلقنا وعبء زوالنا. تجاوزت مرحلة السؤال عن الاتجاهات الفنية. أرسم مثلما آكل وأتكلم وقد اختلط الكلام باللون.
تصوِّر يوميات ومشاهدات وتركز أكثر على الناس في لوحاتك. متى ترسم نفسك، أي متى ترسم من داخلك، من دون أن يتحكم المشهد الخارجي بلوحتك؟
- أنا لا أرسم غير نفسي وكل اللوحات التي أرسمها أعرض فيها نفسي للناس. وإن كنت أرسم المرأة التي تختلف عني، فأنا أرسم أمنياتي واللوحة هي مرآتي، هي مشهد متكامل يشبه الكرة الأرضية والبحر والنجوم.
على البحر يبدو المشهد متخيلاً في كثير من الأحيان، كأن تعري نساء الشاطئ بالكامل ويتحول البحر إلى مجرد حجة لتصوير العاريات.
- لا أحب أن يكون مشهد المرأة على البحر مرتبطاً بمايو. المرأة عندما تكون على شاطئ لا صفة ميكانيكية لها، هي مثل السمكة والصدَفة، مثل الشجرة. لا نستطيع إلباس الشجرة ثوباً فتفقد علاقتها بالطبيعة والغيم والقمر. لذلك عندما أرسم الإنسان أحترم الشكل الإلهي له. الإنسان نيته عاطلة، أما الله فخلق الناس عراة. والصوفيون في الهند يصلون وهم عراة.
العري
لكنك تُسقط العري في اللوحة كحلم، كأن تضع عارية في مشهد عرس مثلاً.
- كل شيء غير عارٍ هو تشويه. كل ما يبعدنا عن جمال الطبيعة هو تقليل من حضور الإله فيها. لم يُبَعِ الجسد إلا بعد نشوء الأديان. لم يكن هناك ما يسمى زنى. كان الإنسان طبيعياً وحراً وصادقاً. استعمال التقاليد الدينية بطريقة غير حضارية جعل المرأة عورة، وجعل الطفولة، في التربية الخطأ، تتشوّه، لذلك ماتت مواهب كبيرة وعبقرية في مهدها، نتيجة المفاهيم اللاإنسانية واللاحضارية. وكم تسمع من إنسان يقول لقد فقدت طفولتي وأريد العودة إليها، لأن الإنسان البدائي وعبدة الأوثان هم أقرب إلى الحقيقة مما وصلت إليه الأديان السماوية. وأعترف هنا بأن البوذية هي الدين الوحيد الذي لم يعقّد الإنسان في تقاليد، بل جعل من الصحة والسعادة الهدفين الحقيقيين لمصير الإنسان. ليست هناك جنة وجحيم في التقاليد الهندية القديمة مثلاً. بقي الإنسان حتى اليوم مفقراً ومنسحقاً أمام الوحش المالي، لكن الطير والشجر والتراب والنمل بقيت متآخية. متى يستيقظ الإنسان من جشعه وحبه للقتل وتجميعه لأسلحة الدمار الكارثية؟
لديك لوحة عنوانها «مدن البحر» يأتي الواقع فيها كأنه أطلال مشهد مدينة على البحر. هل هي مسافة فنية بين أسلوبين يتأرجحان بين تصويرك الواقع بكثير من الوضوح وتجريده ليتحول إلى مجرد تلميح، أم أنك ترسم مرة أمام المشهد ومرة من ذاكرة بعيدة؟
- لوحتي كأنها مذكرات إنسان يحب السفر. لا أستطيع الذهاب إلى القاهرة من دون أن أرسم النيل، ولا إلى اسطنبول من دون رسم البوسفور. نفذت أعمالي في حوالى عشر مدن بحرية. وعندما أنجزت كتاباً عنوانه «البحر» جمعت لوحات من مدن رسمت فيها البحر، من أيام مقهى الحاج داود في بيروت إلى الجزائر، إلى نيويورك، إلى جبيل وصور وصيدا. جمعت هذه اللوحات كلها تحت عنوان «مدن البحر». أحاول أن يكون لديّ منهجية في الكتب. عندي مثلاً أعمال عن المغرب ستنشر في كتاب تحت عنوان «المغرب». الموضوع هو الذي يخلق العنوان. عندي لوحات عن الحرب في عدة مراحل حتى العام 1975 لم أنشرها بعد، سوف أطبع كتاباً عن غزة 2006.
في لوحات البحر بالذات تلجأ إلى تأليف جديد للوحة، بحيث تكون المساحة الزرقاء محتلة اللوحة كلها، عدا مساحة قليلة فيها مركب أو صخرة أو شخص، ما يحيلنا على اعتمادك هنا على الإيقاع الشعري أكثر من حشد التفاصيل.
- الحقيقة أن موضوع البحر شدني. رسمت البحر في مراحل عدة في لوحات صغيرة من الغواش، وعندما دخلت في التجربة الزيتية كان من السهل استخدام المساحات الواسعة والرموز القليلة، حتى اختلط هنا الواقع بالتجربة. وأنا نفسياً تشعرني المساحة الواسعة بالارتياح.
اللون
في أول صفحة من كتابك «بحر» صورة لك مع شال أحمر، وتقف إلى جانب عمود أحمر، إضافة إلى أن اللون الأحمر يفيض على المشهد، هل لهذا الأحمر الذي تكرره في اللوحات عموماً، ولو بضربة بسيطة، معنى رمزي، أم أنه لون جمالي؟
- اللون مسألة خطيرة. العديد من الناس يتمنون لبس ألوان معينة لكن لا يتجرؤون. من الصعب أن نلبس بدلة برتقالية أو صفراء أو خضراء، لأن المصمم لا يسمح بذلك، لكن المهرج يلبسها لأنه يتجاوز الأعراف والموضة والأزمنة. البدوية تفعل ذلك أيضاً لأنها قريبة من نفسها أكثر. الطفل يستخدم اللون الأحمر. الهنود يفضلون أجمل الألوان، الأصفر والأحمر والنيلي. الإنسان المتحضر يبتعد عن ذاته، لذلك فهذا اللون أو البقعة الحمراء والصفراء هي رمز لطفولتي وبدائيتي وارتباطي بالطبيعة وباللون الذي لم أخلقه أنا، وليس لي دخل في اختراعه، أستعمله كآلة للتعبير عن حريتي فقط.
تصويرك العاريات هدفه تجسيد مشاعر جنسية أم البحث عن أسباب جمالية؟
- لا أعرف لماذا أحب الوردة. كيف تريدني ألا أحب الطير والربيع والمرأة بعريها. ماذا يبقى من المرأة إذا لففتها بشرشف؟ ماذا يبقى من الوردة إذا غلفتها بمنديل؟ أنا لست ضد شيء، أنا مع اكتشاف موضوع عمل أستطيع أن ألونه بطريقة ترضيني، من دون أن أقع في الرتابة والجمود. أحب أن تكون لوحتي تشبه جسدي، جسدي الذي لا يتكرر، يكبر دائماً وتتغير ملامحه. أتمنى أن تكون لوحتي تشبه الأيام والفصول والنبات والاختراع والصورة الجديدة واللحن الجديد.
ترى معارض فنانين شباب يخرجون على اللوحة التقليدية، ويبحثون عن لوحة جديدة معاصرة تتناسب مع العصر. كيف ترى مثل هذه التجارب؟
- أنا ضد هذه التيارات المعاصرة، لأنها لا تقود إلى انتصار بل إلى تضعضع وتفسخ. بقدر ما تكون المشروبات الروحية مهمة لا تغني عن الفواكه الطبيعية والعصير الطبيعي والأكل الطبيعي. الكثير من الناس يفضلون «البيبسي كولا» على الليمون مع أن الليمون أرخص.
هل تصل الأمور عندك أنك ترى فيها خطراً على استقرار الفن؟
- أكيد. اللوحة البشعة تؤثر سلباً في المجتمع مثل الأغنية البشعة.
نفهم أنك ضد أي ثورة في الفن؟
- أنا مهمتي إنجاز لوحة جميلة، وما تبقى لا يهمني. أنا مثلاً أفضل عبد الوهاب وأسمهان ونور الهدى وفريد الأطرش وفهد بلان.
ونانسي عجرم؟
لا أطيقها. لدينا فنانون مهمون مثل إيلي شويري وزكي ناصيف وتوفيق الباشا.
هل استطاع النقد اللبناني أن يكون فاعلاً في التشكيل اللبناني؟
كان فعالاً جداً في الحركة التشكيلية اللبنانية، لأن الفنان يضيع إذا كان يعتمد على نفسه فقط في تقييم عمله الفني، ولا يستفيد إذا بقي وحيداً أو يعيش في عزلة. يلعب الناقد دوراً كبيراً في إنارة الطريق والتركيز على النواحي الجديدة في العمل الفني ونواحي الإبداع. الصحافة اللبنانية لعبت دوراً مهماً جداً، والكتابة عن المعارض والتجارب التشكيلية من الستينيات حتى اليوم كانت مهمة. أنا أعترف بأننا نمتلك تراثاً فنياً لبنانياً أصيلاً، وله قواعد وجذور، ونمتلك تجربة حضارية لا تقل عن تجربة مدرسة باريس، لأن أكثر من 20 فناناً لبنانياً أسسوا في باريس مدرسة فنية لبنانية لم تلتزم بتقليد وترجمة الغرب، بل استوعبت الثقافة الغربية واستطاعت التأسيس لمدرسة أو لوحة لبنانية مغايرة أعتز بها وأتمنى أن تكون لوحتي الشخصية مبنية على أسسها، وكذلك اللوحة اللبنانية التي أفتخر بأن نطل بها على التجارب العربية والعالمية بكل اعتزاز في النهاية أنا رسام تخطيت أفكاري وأحاسيسي، لكن أتمنى ألا أتخطى لوحتي وألواني.