Wednesday, July 4, 2012

معرض "خطاب الفجر" للفنان عدنان يحيى



هاني الحوراني 


يعد توظيف الخط أو "الحروفية" في اللوحة العربية المعاصرة أحد المقاربات التي لجأ إليها التشكيليون العرب مبكراً في محاولة منهم لصياغة هوية خاصة لأعمالهم، تيميزاً لها عن اللوحة التشكيلية التي نشأت وتطورت كفن أوروبي خالص، قبل أن تنتقل إلى العالم العربي مع أواخر القرن التاسع عشر، ثم لتتطور وتترسخ في القرن العشرين، حيث اكتسبت شرعيتها كأحد فنون المنطقة.
إحتلت الحروفية في غضون ذلك مكانة هامة في أعمال العديد من الفنانين التشكيليين العرب، ولا سيما لدى جيل الستينات منهم، حيث طور كل من هؤلاء مقاربته الخاصة لمعمار لوحته على قاعدة الخط العربي، الذي كان قد نشأ وتطور خلال القرون الماضية، وتحول بذاته إلى فن قائم بذاته، تعددت مدارسه وأنماطه، كما تنوعت استعمالاته، من تدوين القرآن الكريم إلى كتابة المخطوطات إلى تزيين المساجد والعمائر والملابس والأواني والأدوات الخزفية والمعدنية .. إلى كتابة الأمثال والحكم والمواعظ الأخلاقية، مروراً بتخليد السلاطين والحكام.
ورغم براعة العديد من الرواد والفنانين المخضرمين في إدماج الحروفية في نسيج لوحاتهم، إلا أن الجدل لم يتوقف حول ما إذا كان الاتكاء على الحرف العربي كافياً بحد ذاته في بناء هوية مميزة للفن التشكيلي العربي المعاصر، ناهيك عن التساؤل حول مدى التوفيق الذي حالف عشرات، وربما مئات، التشكيليين العرب في توظيف الحروفية ضمن معمار لوحاتهم، حيث وُصفت العديد من هذه المحاولات بالركالة الفنية أو "المتاجرة" بجماليات الخط العربي لاخفاء العيوب التكوينية لأعمال مثل هؤلاء الفنانين، أو لكسب رضى وقبول المشاهدين والمقتنين، من خلال إقحام الحرف العربي، بما له من سحر آسر في ترويج أعمال هذا أو ذاك من الفنانين. وليس سراً أن الأعمال المعتمدة على الحروفية العربية حظيت برواج هائل في السنوات الأخيرة، خاصة بعد ازدهار سوق الأعمال الفنية في بلدان الخليج، مع دخول بعض المؤسسات الغربية المشهورة، مثل "كرستي"، في عملية تنظيم المزادات الفنية إلى أسواق الخليج، علماً بأن العديد من الأعمال الحروفية تعود لفنانين من إيران وتركيا، وبدرجة أقل إلى مصر والدول العربية الأخرى.
مناسبة هذه الاستعادة لمكانة الحروفية في الفن التشكيلي العربي المعاصر هو معرض عدنان يحي الذي ييحتضنه مركز رؤى للفنون، إعتباراً من الخامس من تموز الجاري، تحت عنوان "خطاب الفجر"، والذي ينطوي على إنعطافة فارقة في أعماله التي طالما تميزت بتناولها لقضايا انسانية وسياسية بامتياز، ولا سيما الخاصة بالانسان الفلسطيني ومعاناته، إضافة إلى قضايا الشعوب العربية ومعاناتها من العدوان الاستعماري أو التسلط الداخلي، وهي أعمال تميزت بأسلوبها الذي يجمع ما بين الواقعية والسريالية (أو الفنتازية)، منتقلاً من هذه الأجواء إلى الحروفية.
لكن هذه الانعطافة ليست مجرد تحول في موضوع أعماله (في الواقع يضم المعرض تسعة أعمال تشكل استمرارية للوحاته ونُصبه النحتية ذات المضمون السياسي)، وإنما مثلت قفزة اسلوبية نحو فضاء جديد، قائمة على "حروفية شخصية" كان الفنان عدنان يحيى قد طورها خلال العامين الأخيرين، وباتت تشكل القسم الأكبر من أعمال معرضه الجديد (32 لوحة حروفية).
في "خطاب الفجر" إبتدع عدنان يحيى لوحته الحروفية الخاصة والتي لاتمت بصلة إلى الحروفيات السابقة والمألوفة. فهي حروفية "إخترعها" بنفسه ولنفسه. فهي ليست أثراً أو إقتفاء لأنماط الخط المعروفة. ولوحاته، بهذا المعنى، تنطوي على مزيج من العفوية التي تسم الخط الشخصي لكل واحد منا، ومن التخطيط والاكتشاف والحذاقة الحرفية التي طورها، لوحة بعد أخرى، مستخدماً مواداً وأصباغاً خاصة تسمح له بالحركة الحرة لتشكيل أعماله بأسلوب الكشط على السطح اللزج من المزيج اللوني، والذي تتنوع أطيافه اللونية من لوحة إلى أخرى، وحتى على مستوى سطح اللوحة الواحدة.
إن لوحات عدنان يحيى الجديدة هي أقرب ما تكون إلى "السباحة" في حوض المزيج اللوني، فهو يتحرك بحرفية السباح الماهر الذي يختبر مختلف أنواع العوم على السطح الذي يؤسس له مسبقاً، عارفاً الأثر الذي تحدثه كل ضربة، بل الضربات المتتالية من "مكشاطه" على السطح الكثيف والمرن في آن واحد.
والواقع أن جِدة عدنان يحيى لا تقتصر على "اختراعه" حروفية شخصية، وإنما تتجلى أيضاً في خاماته المستخدمة، وفي الطيف اللوني الواسع للوحاته الذي يتسع لكل المشتقات اللونية المعروفة في الفنون الاسلامية، من الأخضر الزيتوني إلى البني إلى الأصفر التُرابي، مروراً بالبترولي والرمادي والأبيض. فهي ألوان "كريمية" كتيمة وكثيفة تعطي أعماله رصانة المخطوطة، وتعزز قدسية النص بوقار مسطرة ألوانه.
وفضلاً عن ذلك فإن تكوينات لوحاته تستوحي معمار المخطوط وشكل اللوحة الحروفية الكلاسيكية، لكن بعد تحريرها من الزخرفية التقليدية. فهي تحتوي على متون وهوامش، أو على كتلة مركزية وإطار عام، بما يوحي بأن لوحة عدنان يحيى هي، من ناحية اُولى، إستمرار ومتابعة لما سبقها من تطور في مسار لوحة الخط العربي، وهي، من ناحية ثانية، تنطوي على حداثة وتجديد في شكل اللوحة ومبناها. وكأن هاجس عدنان يحيى هو إيجاد المعادلة الصحيحة ما بين الاستمرارية (التراث) والقطع (الحداثة).
إقتبس عدنان يحيى غالبية نصوص أعماله الخطية من القرآن الكريم، فكل لوحة إعتمدت شطراً من آية قرآنية. لكن أسلوب كتابة النص (رسمه) غالباً ما تتخذ شكلاً وتركيباً يستعصي على القراءة الفورية، ويتطلب تأملاً وتفكراً في صصورة النص. والواقع أن هذا النوع من المقاربة الخطية للنصوص الدينية له جذوره في الفنون الاسلامية، وفي الخطوط الكلاسيكية للكتابة العربية. فهي تُعنى بالجمالية أكثر من مما تعنى بالافصاح عن المضمون، أو لكأن جمالية الحرف العربي باتت جزءاً من قدسية النص الديني.
ربما يرى البعض في تحولات عدنان يحيى نحو الحروفية مجازفة من جانب فنان عُرف بأسلوبه المميز بالواقعية السحرية وبموضوعاته التي كاد أن "يتخصص" بها، وهي الموضوعات السياسية، والتي تعكس هموم الناس العاديين والضحايا والمهمشين، أو تندد بالقوى الدولية الغاشمة والمتجبرة والطغاة المحليين. وهما ميزتان ضمنتا لعدنان يحيى مكانة مرموقة في المشهد التشكيلي العربي، خاصة وأن ثورات الربيع العربي عززت الحاجة إلى هذا النوع من الأعمال التي تنشغل بالسياسة والشأن العام دون أن تساوم أو تخل بالشروط الفنية.
لكن معرض "خطاب الفجر" جاء ليؤكد أن مجازفة عدنان يحيى هي في الواقع مقامرة محسوبة، أعد العدة اللازمة لخوض غمارها، وهي تتماهى أيضاً مع المناخ العام الذي يشجع على العودة للروحانية والصوفية، وعلى اللجوء إلى الرموز الدينية في مواجهة 
الظلم والقهر وللدفاع عن الكرامة الانسانية.




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر 




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب لفجر"




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر






الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر


الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب لفجر"

No comments:

Post a Comment