Wednesday, December 5, 2012

العنصر السوريالي الغالب في رسومات معرض "حنيفة" للفنّان سلام ذياب

بقلم: الدّكتور منير توما
                                                                                                               كفرياسيف
سلام ذياب 


بعد مشاهدتي لرسومات الفنّان سلام ذياب في المعرض الذي أطلق عليه اسم جدّته "حنيفة" في صالة عرض رابطة "إبداع" بكفرياسيف، قام الأستاذ سلام مشكورًا بإهدائي كاتالوج رسومات المعرض الصّادر بحلّةٍ أنيقة قشيبة حيث اطّلعتُ بإمعانٍ وتفحّص باللوحات الظاهرة فيه، ووجدتُ فنًّا حداثيًا في الرّسم يتمثّل في غالبيته بالنّزعة السوريالية التي تعتمد دور التعبير عمّا هو كامن وخفي في اللاوعي أو اللاشعور، وذلك من خلال "أوتوماتيكية النّفس الخالصة البحتة"، فالفنان عليه أن يترك أفكاره تتجوّل مُتخلّصًا من الكوابح، رابطًا الأفكار والصّور في تداعيات حرّة وعابرة ممّا يجسّد الاتجاه السوريالي الواضح في لوحات هذا المعرض.
سأركّز في تعليقي على رسومات الكاتالوج، على نماذج قسّمتها إلى فئتين أو مجموعتين من حيث كون الفئة الأولى عبارة عن مجموعة تتناول موضوعات عامّة بألوانٍ فريدة خاصّة بتمازجها وتفاعلها الذّهني والحسّي، بينما الفئة الثّانية تؤطّر لشخص جدّته "حنيفة" من خلال نظرة إنسانية عميقة الأبعاد، شاسعة الآفاق في تصوير الجانب النّفسي التراثي للمرأة القروية الفاضلة قلبًا وقالبًا بما توحيه من معانٍ مجسّمة في القالب الجسدي للمرأة المتمثّل في الزيّ والوقفة الرّصينة الصّامدة أمام هموم ومسؤوليات الحياة، وكلّ ذلك بتنوّع لوني رمزي يحمل العديد من المعاني الإنسانية الغامضة فكرًا وأسلوبًا بمزيجٍ من الحركة والسّكون اللذين تجسّدهما ريشة الفنّان بمهارةٍ وإتقان.
لقد استرعى انتباهي عدد كبير من لوحات الفئة الأولى (وفقًا لتقسيمي الآنف الذكر)، وارتأيتُ هنا أن أشير إلى لوحات معيّنة مثل "بعض البيوت"، "طبيعة ميّتة"، "بدون عنوان"، "لا أحد يعلم"، "الحماران"، "حنظلة"، "إلى أين"، "بين حضارتين"، "خشب ومسامير"، "مجهول"، حيث وجدتُ أنّ الألوان والأشكال تستوقف الأنظار بدرجات متفاوتة، فالرّسام هنا يُحيل أحاسيسه إلى استجابات حركيّة ثمّ يجسّد تلك الاستجابات على لوحة ليجعل المشاهد يتأمّل هذا العمل الفنّي التّشكيلي مثيرًا اهتمامه بما فيه من قيمٍ تشكيليّة مميّزة له أو بمعنى آخر ما فيهِ بالفعل ممّا يهم العين لا سيّما تداخل الألوان الموحية بهذه الحركة المؤطّرة في خلفية ساكنة تتيح للمشاهد الكثير من التّداعيات فيما وراء الواقع التي تداعب خياله وتثري اللاشعور لديه بصورة آلية تعمل على تجميع تساؤلات لا مباشرة في اللاوعي البشري. فالعين هي دائمًا عين كائن حي. وقد تثير المرئيات في اللوحات المذكورة الخيال على نحو ما تفعل الكلمات في النّثر أو الشّعر. فالشكل واللون هما شكل ولون لشيء ما حيث أنّ الاستمتاع التّشكيلي الخالص لصورة يقتصر على الخطوط والألوان المنقوشة في كلّ لوحة من لوحات الفئة الأولى التي نحن بصددها هنا.
إنّ أوّل خطوة في طريق تذوّقنا وتقديرنا الجمالي لهذه اللوحات المُشار إليها هي استرجاع العين سذاجتها وسرعة تجاربها مع الاندماج لحظة المشاهدة في موضوع الرؤية والتّصوير. إنّ اهتمامنا هنا ينصب في المحلّ الأوّل على اللون والخط والكتلة؛ فبغض النّظر عن أيّة فروق في الاقتران والتّداعي، فلفروق اللون ذاتها آثار نوعية من حيث المتعة أو الألم الطّفيف ومن الثّابت أنّ في اللون تنافرًا كما في الصّوت، وفي هذهِ اللوحات ثمّة ألوانٍ ساطعة وحادّة مثل الأرجواني والبنفسجي. وثمّة ألوانٍ هادئة رقيقة مثل بعض الأصباغ الزّرقاء الخفيفة. والألوان في رسومات هذه الفئة لا تبدو لنا مجرّد ألوان تراها العين، بل هي ترتبط بأحاسيس وذكريات سارّة أو مكدّرة. ولمّا كانت أحاسيسنا وذكرياتنا مترابطة ومتداخلة، فإنّ ألوان صور اللوحات تحدث بطريقة مبهمة آثارًا محتدمة من خلال هذه التّرابطات التي لا نكاد نستبينها، فاللون كما تراه العين وما يثيره في الخيال، كلاهما سمات ضرورية في تأثيرها الجمالي.
وبمتابعة حديثنا عن لوحات كتالوج معرض "حنيفة"، نأتي للتعقيب بإيجاز عن لوحات الفئة الثّانية التي تتناول رسومات تتعلّق بجدّة الفنّان سلام حيث اخترت لوحات "حنيفة 7"، "فستان جدّتي"، "لاجونا"، "جدّتي حنيفة"، "جدّتي والمصفاة"، "بدون اسم"، ففي هذه اللوحات ترتبط الأشياء المرسومة في صورٍ عديدة برصيد العواطف البشريّة بأسرها والعين التي تبصر هي كعين كائن حي ترتبط عيناه بشيء أكثر من مجرّد جهاز بصري، وله اهتمامات غير تلك الاهتمامات الجمالية الخالصة.
إنّ الفنّان سلام ذياب يرسم بريشته عدّة صور تخطيطيّة لجدّته "حنيفة" مُظهرًا إيّاها غارقة في خضمٍ من الألوان الهادئة البيضاء والزّرقاء، والألوان الحمراء المتوهّجة كما نراها في لوحة "حنيفة 7"، ممّا يوحي بشخصيّة امرأة غاركت الحياة بحلوّها ومرّها وتقلّبت عليها الأيّام وبقيت صامدة في مختلف مراحل حياتها دون انكسارٍ أو نكوص. فاللون الأحمر البارز في هذهِ اللوحة الذي تظهر فيه "الجدّة حنيفة" مظللّة بهالة حول جسمها "aura" يرمز إلى انتصار المحبّة في شخصها بعد أن مرّت في مراحل حياتيّة متنوّعة من المعاناة والألم والصّمود.

سلام ذياب


أمّا في لوحة "فستان جدّتي"، فإنّ اللون الأزرق للفستان يرمز إلى السّكينة والهدوء والطمأنينة التي تمنحها الجدّة وهي تقف على مرتفعٍ بني اللون يرمز إلى كآبة الحياة عند الآخرين والتي تتجلّى أيضًا في سحابة النّقاط السّوداء المنبعثة من هذا المرتفع البني لتشير إلى الخيالات السّوداوية عند هؤلاء البائسين الذين تخفف وتلطّف الجدّة من حالتهم النّفسيّة المكتئبة من خلال رمزية فستانها الأزرق الصّافي. ويغلب في لوحة "جدّتي حنيفة" ظهور اللون الأصفر كأرضٍ متموّجة ذات خلفية زرقاء سماوية يقف عندها طيف الجدّة "حنيفة" بفستان أزرق سماوي اللون ليشير كلّ ذلك إلى الصّفاء النّفسي الذي تمثله الزّرقة، وإلى الأمل وانحسار الكآبة الذي يرمز إليه اللون الأصفر. وفي لوحة "جدّتي والمصفاة" تظهر الألوان الدّاكنة الرّصينة محيطة بشخص الجدّة "حنيفة" التي تبدو مبتسمة متفائلة بخيرات الحياة حيث تشير الألوان السّوداء والبرتقالية الغامقة والزّرقاء المستقلة جميعًا بذاتها إلى أجواء الوقار، والاستقرار والهدوء والعطاء.
وبوصولنا إلى لوحة "بدون اسم" نرى رسمًا تصويرًا للجدّة "حنيفة" وهي تظهر بالثّوب التراثي الشّعبي للمرأة القروية في بلادنا وذلك في إطارٍ يمثّل عراقة وأصالة القرية بمنظرها البسيط حيث يمثّل رسم الجدّة بهذا الشّكل صورة المرأة الفاضلة المتفائلة بابتسامتها المتميّزة بالمحبة والبراءة والنّقاء.
وهكذا نكون قد تناولنا بإيجاز رسومات معرض "حنيفة" للفنان سلام ذياب حيث رأينا أنّ التّأثير الذي يهدف إليه اللون في لوحاته هو خلق نوع من التوافق التّشكيلي واستحداث جوّ بصري، ومن ثمّ تصبح الأشياء المرسومة في التّصوير اللوني خاضعة لضوء وصبغة خاصتين، كما تصبح عناصر سوريالية في جوّ بصري. فاللون يعلي من عملية الرّؤية ويمنحها حدّة وحيوية وعمقًا. ولكن العين حين تبصر تقوم بعملية تجميع، وتركيب هذا التّجميع يصبح ممكنًا خلال القوالب والأشكال التي تصوغها الخطوط في هذه اللوحات وبذلك فإنّ الصّورة في اللوحات المذكورة لا تفقد أصالتها لأنّ موضوعها وجه طريف مثلاً من النّاحية الإنسانية أو منظر طبيعي قد يجد المرء فيه سلامًا وحريّة أو بهجة. وكلّ ما على الرّسام وعلينا كمشاهدين أن نتذكّر أنّ الموضوع ليس هو الذي يخلق الصّورة، فرسّامنا أدرك بأنّه لا يجب عليه أن يعتمد على التّأثير الإنساني في الصّورة، كبديل عن المتعة الجمالية. إذ لا بدّ أن تحقّق الأشياء المعروضة في الصّورة قيمة تصويرية بذاتها. فما هو لطيف من النّاحية الأنسانية يجب أن يصبح من ناحية التّأثير المباشر لكل من اللون والخظ بهيجًا من النّاحية التّشكيليّة.

No comments:

Post a Comment