تتماشى أعمال الفنان “محمود الزيات” الفوتوغرافية مع الابعاد الجمالية للمعنى القادر على اظهار الفروقات التوافقية بين صورة وصورة، للتبلور اللقطات المؤثرة التي تحدد خصائص فنية، وفق تناسب وهمي يغلب عليه المضمون المتصل بخيوط انسانية تتمثل في اظهار المأساة اللبنانية لحرب تموز، وما جرى فيها من ويلات، محاولا قدر الامكان التقاط التفاصيل الموجعة التي تختفي احيانا اعلاميا، وتظهر عبر الصورة الصادقة والعين التي تسلط الضوء على المضمون. بغض النظر عن الاسلوب ومنظوره الهندسي، فالعين التصويرية ” لمحمود الزيات” متعلقة وطنيا بروح العاطفة والعين الابداعية، واتجاهتها المتفاوتة بين المعاناة وقوة المشاعر، والانفعالات وسلبياتها وايجابياتها، فالصورة في اعمال ” محمود الزيات ” تتكلم بلسان الضوء المتباين والواقع الحقيقي دون اللجوء لتفاصيل اخرى مبطنة، وهذه عين الكاميرا القادرة على الاستطلاع ، واظهار الواقع كما هو دون اللجوء الى تكنيكات هندسية او مرئية. انما ترجمة الحدث بلغة فوتوغرافية تلغي الابعاد اللونية ، وتجرد الصورة من الفواصل لتمنحها عين جديدة هي عين المتلقي .
ابداع تقني وفني في توسيع البؤرة الضوئية، لتلتقط العين بعدستها ما هو قريب وبعيد في آن دون اللجوء الى التأليف الفني. انما هي صورة صحفية بحتة تلتزم فنيا بالابعاد، والمساحات الواسعة وقوانين الضوء النهاري والليلي، والالوان التكوينية للصورة القريبة والبعيدة والسريعة او بالاحرى المترجمة للغة الحدث، والتي تحتوي اكبر قدر ممكن من المفردات الفنية الايحائية ، كتلك التي نرى فيها اسرة مهجرة في مدرسة، واطفالها ينامون داخل المقاعد، بينما الرضيع هو في حضن امه ووطنه الاول الام، ليتشرد داخل وطنه ومع عائلته، وما زال في طور النمو، فالصورة تعبيرية عن واقع يبرز فيه التشرد داخل الوطن نفسه، والعلم المركون كالمقاعد الموضوعة فوق بعضها البعض، ليستطيع المكان احتواء الازمة كما احتوت العدسة مجموعة العناصر الفنية في صورة استوقفتني فعلا. لان اتساع العدسة الضوئية اقترن مع التعتيم المتوازن لتظهر الصورة على طبيعتها ودون مراعاة للتجميل الرقمي او الحذف والزيادة.
ابعاد داخلية وخارجية تظهر الترابط الابداعي في صورة عجوز تتأمل الحجر امامها، وكأن الركن الاساسي لبيتها قد وقع. لنتساءل في انفسنا اليس الانسان هو الاغلى من حجارة داره ؟.ام ان حجار الوطن تعاني كما الانسان من التساقط والانهيار، فهل المعاناة الانسانية هي وليدة تاريخ يتجدد ويترك من البقايا ذكرى نضعها في البوم تاريخ الحروب الاسرائلية التي تشن ضد الانسانية، لتشهد الاعين كما العدسات على القهر والقوة التي تهدم الاوطان، وتشرد الانسان داخل وطنه، ولتبقى الصورة عين على الحقيقة التي لا تضيف اي محسنات فوتوغرافية لها، ولكن بجمالية واقعية تجعلنا نشعر ان للحروب سريالية تظهر جشع وبشاعة العدو، وقوى الشر التي تباغت العجائز والاطفال والرضع، فهل ننسى لا تقطعوا شجرة؟.ام نمسك بالعدسة ونلتقط كل الاوجاع الانسانية؟
تقف متأملا صور الفنان الفوتوغرافي ” محمود الزيات” وانت مشتت البصر ، محاولا لملمة الجزء من الكل، وكأنك لو جمعت صور حرب تموز مثلا ! لرأيت الكل يبحث عن ذاته، وعن الوطن المفقود داخل دائرة المعاناة التي تركت السيارات والابنية والتشرد المكتمل الاركان من حيث الخراب والدمار! اي الجماد كما الانسان، وكأن العدو يتعمد تمزيق البنى التحتية وتمزيق الانسان، فتظهر الصورة تعتيمية ضبابية مؤثرة على الوجدان الوطني، وتدفعنا نحو البحث عن بقعة لا خراب فيها او بالاحرى فراغ بين الاجزاء المتشابكة، والمعقدة في صورة احتل الخراب فيها حتى الفراغات اللونية التي غالبا ما تشعر انها بألوان غبارية، وكأن الانفجارات حدثت الآن .
يمتلك ” محمود الزيات” الحس الوطني المتغلغل داخل عدسة تجعلنا نقرأ اخبار الحروب المدمرة، والاوضاع الفلسطينية داخل المخيمات وما تعانيه تلك الفئة الفلسطينية الموجودة داخل لبنان، والتي تتم ملاحقة امنها وانتهاك حتى الفقر الذي تعانيه المخيمات الفلسطينية. لتزداد المعاناة تأثيرا معتمدا بذلك على البصر التحليلي والتفكيري والادراكي القادرة على الاستنتاج والفهم من خلال صور الاطفال خاصة ، كاحتراق وجه طفل يتماثل للشفاء، فهو النقطة الاساسية في الصورة حيث ان العدسة هنا اعتمدت على التكبير والتوسيع والمباشرة في القاء الضوء على انتهاكات حقوق الاطفال، فالاب الذي يبكي كطفل في حضن ابنه تختصر الف معنى مؤلم جرى في حرب سوداء.
وضوح تصويري متفاوت الفروق يحقق للفكرة وصولها الى حواس المتلقي، ليتفاعل معها بوجدانه ومفاهيمه الانسانية ، فنشعر بحرية الصورة ومصداقيتها. كما نشعر بالقيود الصعبة التي تخطاها ” محمود الزيات” قبل ان يلتقط بعدسته المتحررة من كل شىء الانسان اولا، وما يعانيه من تفاصيل حياتية يتعرض لها، ومن حروب تشن على الضعفاء، وتترك امكنة الاقوياء كما هي لا تزحزحها انفجارات او تهشم صورتها عدسة تبحث عن تحقيق المقاييس الفوتوغرافية فقط او عن هدف اعلامي مشوه الحقائق، وهذه ميزة في عدسة ” محمود الزيات” وهو نقل الواقع فوتوغرافيا وبمساحات تتسع لعين المشاهد.
يقول بيكاسو:”ان الفنان لا يكون في واقع الامر في حالة من الحرية كتلك التي يجب ان يتظاهر بها..ان الفنان يحيط به العديد من القيود، وهي ليست دائما من القيود التي يمكن ان يتخيلها الانسان العادي.لان ” محمود الزيات” لا يبحث القيمة الجمالية للصورة الفوتوغرافية فقط. انما يبحث عن سيكولوجيا فنية تحقق اجتماعيا وظيفة صحفية تعرض الواقع المرئي، وتظهر ابعاد الحروب والنتائج السياسية. لكل حدث سياسي سلبي او ايجابي، ليعكس المؤثرات الفوتوغرافية، ويضعها في عين الرائي بمصداقية . كما هي في كل جزئياتها الفوتوغرافية ، ووببصمة واقعية تظهر المعاناة الانسانية ونتائج الحروب السيئة على الاوطان.
أعمال الفنان محمود الزيات من مجموعة متحف فرحات
بقلم ضحى عبدالرؤوف المل