قد لا ينطبق مفهوم الغرائبية exotisme تماماً على أعمال الأخوة بايير. دوماً ما كانت الغرائبية سمة من سمات الرسم الاستشراقيّ. وإذا كانت الأصول اللغوية اليونانية للمفردة لا تفسّر جميع نزوعات الرسم الاستشراقيّ في القرن التاسع عشر، فإنها قد تُلقي بعض الظلال على الممارسة الاستشراقية المتعلقة خاصة بالشرق العربيّ.
لدى اليونان تذهب مفردة إكزوستزم إلى معنى الخارج والغريب، التَوَلّه بكل ما هو غريب، لكنه وَلَهٌ يضع مسافة واضحة مع الغريب وينظر إليه بصفته موضوعاً للفضول والغرابة والتعجّب، وأحياناً الدونيّة المُضِمَرة. في عصر التجارة الدولية عبر البحار ثم في عصر الكولونياليات تَوطَّد، قليلاً، هذا البعد السالب للإكزوتيزم وإنْ تغطى بلبوس الفضول بل محبة الآخر، محبة من نوع خاص، إلا لدى الفنانين الكبار الذين استلهموا، بطريقة حديثة وضمن مشغل مفهوميّ جماليّ خالص، فنون الشرق وأفريقيا مثل ماتيس بالنسبة للفن الإسلاميّ، والانطباعيين بالنسبة للدمغات اليابانية وبيكاسو بالنسبة للفن الأفريقي وغيرهم.
لم يستلهم عموم الرسم الاستشراقيّ الشرق في سياق بحث جمالي حداثيّ محض. ويمكننا تمييز نوعين أساسيين من هذا الرسم في القرن التاسع عشر:
الأول: واقعيّ، إبهاريّ، محفوف بالقليل والكثير من الأوهام الثقافية والإسقاطات الجنسية، وينطلق من صورة ثابتة لشرقٍ متخيّل.
الثاني: أقرب للروح الانطباعية الناهضة نهاية القرن التاسع عشر، الباحثة عن الألوان القوية وتغيرات الظلّ والضوء في مشهد طبيعيّ مضروب بالشمس، وكائنات بشرية بأزياء مزركشة بالنسبة للنساء، وألوان صارخة مُوحَّدة بالنسبة للرجال.
وما بين هذين النسقين ثمة مختلف الأنساق الأخرى التي قد لا تستطيع إلا بصعوبة النهوض وحدها كتيار أو أسلوب متفرّد فريد في الرسم الاستشراقيّ.
مارتن بايير , من مجموعة متحف فرحات |
أعمال الأخوة بايير في بداية القرن العشرين، تتأرجح بين هذا وذاك، ولا تُصاب بالأكزوتيكية المُصفّاة لأسباب عدة، أولها تمايز العلاقة التاريخية للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي الثقافة الأمريكية، مع بلدان الشرق: إنها لا تمتلك معها أي علاقة كولونيالية مباشرة في ذلك الوقت. نتائج الأمر على المستوى التشكيلي تؤدّي إلى فارق موضوعيّ مُرْهف بين الاستشراق الأوربيّ ومثيله الأمريكيّ، على مستويات المفهوم النظريّ، البعد السياكولوجيّ والمعالجات البصرية.
فمارتن بابير المولود في شكاغو عام 1894 والمتوفى عام 1961، كان قد ذهب عام 1924 إلى باريس، ولعل لقاءه مع فنانين حديثين مثل بيكاسو وسوتين و كريمين Pinchus Kremeń ( (1890-1981، بين الأعوام 1924 و1940، كان قد منحه مذاقاً مختلفا للفن المعاصر. أما أسلوب بيكاسو فكان معروفاً منتصف عشرينيات القرن العشرين، بينما كان حاييم سوتين يشتغل على تعبيرية عنيفة مذكرا بأسلوب أوجين شيلي أو مودلياني لاحقاً، وكان كريمين تعبيريا بدوره وفي نطاق أسلوب سوتين.
عندما قام مارتن برحلته إلى الجزائر (بين رحلات أخرى إلى إسبانيا وإنجلترا وبلجيكا وهولندا)، كان ذلك قد جعله على مسافة أكيدة واحتراس لكي لا يذهب إلى نسقي الرسم الاستشراقي الموصوفين أعلاه،
الأخ جورج (George Baer (1895 – 1971، لم يبعد كثيراً عن ذلك، بعد التأثيرات الانطباعية القوية التي تعرَّض لها الأخوان كليهما. خاصة جورج الذي ما زلنا نرى في أعماله، أكثر من أعمال مارتن، لمسة انطباعية تخلى الأخير عنها تماماً.
إن أعمالهما الاستشراقية المعروفة تستلهم قرية الأغواط على أطراف الصحراء الجزائرية.
مارتن بايير, مجموعة متحف فرحات |
إن تنوُّع المشاهد وتباينها، بين الريفيّ والمدينيّ والصحراويّ، في لوحات الأخوين بايير، مثل لوحة مارتن (زُهرة) حاملة الورود، ولوحة جورج (بائعة الخبز)، تفسّر بأن الأغواط (وهي مدينة جزائرية اليوم)، لم تكن محض بلدة صحراوية، فهي تشتهر بالنخيل والبساتين والواحات، وتمتاز مدينتها العتيقة بطابعها العربيّ الذي يعود إلى مؤسسيها الهلالين خلال القرن الحادي عشر الميلادي، والتي قرّر المستعمر الفرنسيّ جعلها منطقة ذات حكم عسكريّ فلم يتدخّل في معمارها الأصليّ كثيراً.
غالبية المشاهد (الرقص العربيّ، مشاهد الجموع البشرية في الأغواط Les chleux، الطفلة خديجة من وهران، القايد عمر بلقاسم.. الخ) تبرهن على أن اختيارهما للمواضيع، مارتن خاصة، وزوايا النظر والمعالجات البلاستيكية، لم يكن محكومة بأي هاجس استشراقيّ زخرفي، تخيلي، إبهاريّ. في هذه اللوحات نحن على مسافة من المفهوم المعتاد للرسم الاستشراقي، بل نحن مع قطيعة معه حتى لو استثمر الرسّام مناخات مشابهة ظاهرياً لفن الاستشراق للتعبير عن هواجسه الجمالية. وفي رأيي لم يعد من مقام، في هذه اللوحات، للحديث عن رسم استشراقيّ. نحن في فن الرسم وحده بكل بساطة.
لا تستهدف غرائبية المشاهد المذكورة إثارة الفضول الإكزوتيكي. فالمشهد فيها تعلة للتعبير الفنيّ، لروح الفنان التي تجد في المشهد وشخوصه بعض ما يثير إشكالياتها الفكرية والجمالية في المقام الأول.
مارتن بايير, زهرة , مجموعة متحف فرحات |
عند قراءة العملين النقديين المعروفين المكرسين للأخوين بايير:"فن مارتن بايير، جورج بايير" (The art of Martin Baer, George Baer) عام 1928، و"كاتلوغ رسوم مارتن بايير، جورج بايير" (A Catalogue of Paintings by Martin Baer, George Baer) عام 1926، يستشف المرء أن النقد الفرنسيّ والأمريكيّ يومها لم يفوت الفرصة للإشارة إلى الطابع الطلسميّ لأعمالهما، لم يصمت عن المقاربة بينها وبين أعمال غوغان في تاهيتي، والمقارنة بينها وبين صوفية الغريكو، ورمزية غوستاف مورو، فهل كان الأخوان متديّنين؟. هل كانا شغوفين بقصص الكتاب المقدّس التي وجداها، لا شعورياً ربما ومن بعيد، في المشاهد الجزائرية وهما في حمى الانشغال بهواجس التعبيرية الألمانية ذات الروح الغامض والكئيب؟.
لم تُناقَش هذه الفرضية، مع أهميتها بسبب بعض الغموض التاريخيّ المحيط بسيرتهما الذاتية ومعتقداتهما الروحية. جميع عناصر أعمالهما تستطيع دعمها من قريب، رغم اللحظة الأوربية التي عُرِفا بها لم تكن لتسمح بإطلاقها بالوضوح الكافي، فاقتصرت على استدعاء الغموض التعبيري والروح السريّ الطاغي فيها الذي يُبْعِدها بوضوح (وهو ما لم يفت على ذلك النقد) عن الأعمال الاستشراقية.
جوهر أعمالهما ذو دفق تأمليّ، روحانيّ بالأحرى، يمكن أن يجعلنا نفكّر، لكن بتحفُّظ وحذر شديدين، بجوهر أعمال جورج روول Georges Henri Rouault (1871-1958) الرسّام الفرنسي المتدين، الكاثوليكيّ، ليس من الناحية الأسلوبية، فشتان بين أسلوبه وأسلوبهما، ولكن لجهة حيرة وغموض وتيه وعذاب شخوصها. شخصيات روول وشخصياتهما في قَدَرِ العذاب Passion نفسه، وفي الغنائية المُعذَّبة عينها.
حتى نساء الأخوين بايير تمتلك بعد الأسى، ولا يمسّها ملمح استشراقيّ بارز، احتفاليّ، شبه أيروتيكيّ معروف كان موضع استعادة دؤوب عند الرسامين المستشرقين.
أكفّ الشخصيات جميعاً خارجة من خشونة جارحة، من عمل داخليّ، ومواقفهما attitudes كذلك، فهي تقف باجتماع غامض، سري، في مكان معتم ضيق، كأنها وقفات قدّيسي الكتاب المقدس في منمنمات الإنجيل الأوربية. لا شيء يختلف في ذلك سوى الأزياء.
هذه المقاربة لا يمكن أن تكون اعتباطية، ونحن نرى عصا الراعي وخِرافة التي يمكننا رؤية آلاف الأمثلة لها في تاريخ الفن، أليس هذا هو الراعي الطيب نفسه، المسيح؟، ألسنا هنا أمام حَمْل الرب؟. خذ على سبيل المثال موزاييك الراعي الطيب في رافينا Ravenna (Mausolée de Galla Placidia) من القرن الخامس الميلاديّ الذي يُقدِّم المشهد نفسه. ألا يذكر هذا المشهد عينه، على مستوى أسلوبيّ آخر وبشخصيات دينية أخرى، ببعض منمنمات مخطوطة (Madrid Skylitzes ) المحفوظة في مدريد (نحو عام 1070م)؟.
لا يصعب الاقتناع بذلك، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المحرّكات اللاشعورية والإرث المسيحي الطويل في الذاكرة الفنية الأوربية والأمريكية. لقد وقع تحويل للمشهد الدينيّ العريق، وقذفه إلى مكان قريب من الشرق وفي مناخاته تحت حجة ممتازة، وفي شروط إنتاج مغايرة، وفي سياق نقديّ لم يكن ليقيم حساباً لمثل هذا التحويل.
من جهة أخرى، لو تأملنا عميقا نساء بايير، لوجدنا غشاوة من الكآبة الوجودية على وجوههن (لوحة جورج "نساء مغربيات أثناء العمل")، ولالتقينا في طبيعته (لوحة جورج "منظر طبيعيّ") نزعة إجمالية، شبه نظامية، ولرأينا كذلك في بعضها الآخر حالة قيامية Apocalyptique (لوحة جورج "البائع") تُذكّرنا دون شك بفنانين اشتغلوا على موضوعات دينية قيامية، قديماً وحديثاً.
تلك الكآبة وذاك النزوع نحو اختصار الطبيعة، وذلك التصوير القياميّ، ليست مستمدة من الاستشراق، إلا بمعنى التذكير بالروايات الدينية عن الشرق. حائكاته وطبيعته وقيامته موجودة في سرديات ليست سردية الوعي الاستشراقيّ. إنها سردية النص الدينيّ المعروف.
جورج يايير , يائعة الخبز, مجموعة متحف فرحات |
لو صحّت القراءة، فنحن أمام طمر نقدي غير متعمَّد للأصل المرجعيّ لأعمال الأخوين بايير، لصالح لحظة كانت منتبهة فقط للجماليات الأكزوتيكية المبحوث عنها يومها بأي ثمن. لحظة تاريخية لعلها كانت تمارس إسقاطا لرغباتها على الثيمات الفعلية التي عالجتها عمليا لوحات الأخوين الأمريكيين.
راقصة الأخوين بايير، قد تكون دليلاً قوياً على مرجعية النص المقدّس. راقصته ليست من شهوانيات نساء الاستشراق. تنعدم الإثارة في وقفتها. نظرتها تنطوي على غموض كبير، وفيها بعض الشرّ. حركة يديها الحادة المتوترة المعوجة تُسْقِط عنها كل رغبة، وتحوّلها إلى كائن رمزي بصيغة أنثى. مشاهدوها من الطبيعة نفسها، بجلستهم ونظراتهم التي تماثل نظرتها. هناك امرأة أخرى في عمق اللوحة تراقب المشهد، وهذه تبدو من الصالحات بثوبها المحتشم والعمل الذي تقوم به. لقد خرجت هذه اللوحة تماماً من عالم الاستشراق، واحتفظت بتعبيرية صافية من طراز ألمانيّ ذات بعد رمزيّ، حتى يمكن للمرء أن يتساءل فيما إذا كان أمام سالومة Salomé العهد الجديد ثانية. وفي الحكاية الشهيرة أنها كانت راقصة بارعة مغناج، وأنها طلبت من هيرودوس الثمل أثناء رقصها أن يقتل يحيى (يوحنا المعمدان Jean Baptiste) ويقدّمه لها في طست من فضة. ألسنا أمام سالومة راقصة الشرق التي استمدت منها عشرات الأعمال الفنية والأدبية، ترقص بين شخصيات ثملة؟. يبدو الأمر محتملاً و قابلاً للتصديق.
|
|
.الخلاصة أن أعمال الأخوين بايير تنطلق من لحظة الاستشراق المهيمنة حينها، لتتحايل عليها وهي تُنجز أعمالاً عن قصص الشرق، في إطار البحث الجماليّ الحديث الذي لا صلة كبيرة له بهموم الرسم الاستشراقيّ السائدة.
No comments:
Post a Comment