Monday, March 21, 2011

غياب الفنان عدنان المصري / كحل عيوننا بالحرف العربي, أحمد بزون


عدنان المصري , من مجموعة متحف فرحات

ارتاح قلب الفنان عدنان المصري، بعد ضعف لازمه سنوات، لم يتخلّ خلالها عن عادته الدائـمة في متابعة الحركة التشكيلية في لبنان، وقد كنا نلتقيه في أكثر المعارض في بيروت وخارجها، نسمع آراءه الجريئة، التي يتحفظ في الإفصاح عنها أمام صاحب المعرض.
كان مهموماً بالفن، لكن كأنه فن الآخرين وملكهم، أما هو فمقلّ في نتاجه وفي معارضه، ومكثر من التمتع في جماليات سواه، بل ربما كان من أكثر الفنانين اللبنانيين انغماساً، أو حتى هوساً، بمتابعة جديد الفن التشكيلي.
لم يكن حيادياً أمام التيارات الضاجة في الساحة الفنية، فهو منذ البداية اختار أن يتخذ موقعاً للوحته، لم يحد عنه حتى آخر أيامه، وإن كان ينوع فيه ويشكّل داخل جدرانه. وهو من جيل كان عليه أن يؤسس للفن الحديث، واحد من الجيل الأول الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة التابع للجامعة اللبنانية، ويعد من الجيل الثالث في الفن التشكيلي اللبناني. لم يكتفِ بدراسته بداية في الأكاديمية اللبنانية، وكان انتقاله من الأكاديمية إلى المعهد خير دليل على ولعه بالفن.
لا شك في أن العديد من الفنانين اللبنانيين فُجعوا بخبر وفاة عدنان المصري، ذلك أنه كان محبوباً وقريباً من الجميع، وهو الذي استمر في خدمتهم متنقلاً من هيئة إدارية إلى أخرى في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، إذ لم تكن لتستغني عنه التشكيلات المختلفة فيها، فهو النشيط المتابع الحاضر الجاهز لأي مشاركة أو دور للجمعية، وقد كنا نسميه «الجندي المجهول» في الجمعية، لكثرة ما يعمل في سبيل الجميع من دون تأفف.
لا يمكن ونحن نتذكر عدنان المصري إلا أن ننتبه إلى أننا كنا أمام فنان مثقف يعرف ما يفعل، من دون كثير اهتمام لما يفكر فيه الآخرون، إذ لم يكن بالخفة التي تجعله يميل مع تيار هنا أو مدرسة هناك، فهو لم يختص بالفن وحده، إنما كان يحمل أيضاً ماجستيراً في فلسفة الجماليات. لذا طلّق المصري أعماله الأكاديمية، لينطلق بمشروعه الفني في بداية السبعينيات، مواكباً حركة تشكيلية عربية نشطت في تلك الفترة هي الحروفية. تلك المدرسة التي وجدها عدنان المصري متوافقة وأفكاره العروبية، من جهة، أو الأفكار التي تؤكد ضرورة وجود هوية فنية لدى الفنانين العرب.

عدنان المصري ,من مجموعة متحف فرحات

قد لا نكون مع الاتجاه العــام لفناننا الراحل، إلا أننا لا بد من الإشارة إلى ما فعله من تجديد في اللوحة الحروفية، إذ كان يجتهد دائماً مــن أجل ألا يكرر تجربة أحد، فهو لم يذهب إلى التعبــيرية التـي اتكأت على الحرف العربي كحجة وفاضت عليه حتى جعلته مجرد علامة شكلية خرساء، إنما عمل على البحث عن هندسة اللوحة الحروفية، إذا جـاز التعبير، عندما اختصر الألوان الحرة الفالتة، ولجأ إلى تكوينات للخط، تبقي على الكلمة ومعــناها، لكنها تذهب في المعنى نحو العمق أو الروح، لا نحو التصوير الذي يؤكد شكلاً خارجــياً، فهــو في الأساس ابتعد عن تصوير الطبيعة أو المشاهد الواقعـية أو الناس أو الأشكال التي تتحرك على الأرض، مقابل أن ينطلق نحــو الداخــل، في سفر أقرب إلى السفر الـصوفي. إنها الرحــلة التي تــنطلق على دفعات، حتى أننا نتطلع إلى لوحته الحروفية، فنجد كيــف تمـوج الحروف دفقاً بعد آخر، لتزاوج بين العين والعقل، مع غلبة الأخير بالطبع.
لم يستطع المصري الهرب بعيداً من المرئي، إذ لم تكن ألوانه مجرد موج يخرج من داخله فقط، إنما كنا نرى الطبيعة أحياناً وقد لبستها الحروف، هنا يموج الأحمر وهناك يموج الأصفر، وهكذا تتحرك الألوان مضيئة وساطعة وقوية، كأنها ملفوحة بشمس، أو غامقة وهادئة ملفوفة بالحزن أو الحكمة، نتنقل بين لوحة وأخرى كأنما ننتقل من فصل إلى آخر. اللون لديه بعيد عن الغيبية، إذ تجمع لوحته، إلى روحانيات التصوف، بعض الحسية. تتشكل الألوان صافية في مساحة اللوحة، بلا تظليل أو تقميش، فالحركة للخط والحرف والشكل الهندسي، فنجد المربع والمثلث وما إلى ذلك من هندسيات تستقيم مرة وتنحرف أخرى. حتى تصبح اللوحة لديه اختصاراً لعناصر التراث العربي الإسلامي كلها، ففي لوحة من أخريات لوحاته، شاهدناها في معرض مشترك أقامه المصري مع الفنان فريد منصور الذي رحل منذ شهور، نرى الشكل الهندسي، والحرف العربي والأرابيسك معاً، كلها تتقاطع وتتفاسح في رقصة فاتنة، لا يربكها التكثيف.
في أي حال، لم نكن نرى أعمال المصري إلا في معارض مشتركة، نقارنه بسواه، نراه دائماً مفرقاً، إذ لم نرَ له معرضاً واحداً يستعيد فيه تجربته، حتى ننتبه أكثر إلى المراحل والتحولات... لكن رحيله وضعنا أمام صوره مجتمعة، صور أعماله وصوره التي سوف تبقى مضيئة في عيون الجميع.
أحمد بزون 
السفير 

No comments:

Post a Comment