تتضمن مجموعة متحف فرحات التي يملكها جامع الاعمال الفنية اللبناني نعيم فرحات ، الذي يولي اهتماماً بالغاً بالنتاج الفني الثقافي المثقل بهموم القضايا العربية مئات البوسترات الفنية التي تتناول ااقضية الفلسطينية وهذه الاعمال الفنية هي الملصقات الأصلية التي نتج عنها مئات النسخ لاحقاً، وتعود لعدد من الفنانين التشكيليين مثل غازي أنعيم، اديب خليل، علي فرزات، عوض عمايري، محمود ابو صبيح، سليمان منصور، زهدي عدوي، وغيرهم من الفنانين.وتحوي هذه المجموعة تطوّر فن الملصق من فترة النصف الثاني من السبعينات وحتى أوائل التسعينات.
فن الملصق السياسي
الملصق الجداري أو البوستر في اللغة الانكليزية Poster صورة تخدم الاتصال الاجتماعي، و وسيلة من وسائل التعبير، ذات مضامين مكثفة لكن بسيطة و واضحة، تتميّز بتعدد النسخ وسهولة الانتشار على الجدران وفي وسائل الإعلام والإعلان. يستوحي الملصق رموزه من الشعب، كونه موجّهاً إليه، محوّلاً الجدارالذي يلصق عليه إلى ذاكرة شعبية، أما المؤثرات البصرية وقوة التصميم الضرورية لجذب المشاهد، فتجعل منه منجزاً تشكيلياً جمالياً.
ظهر فن الملصق بداية في أوروبا قبيل مطلع القرن العشرين، وكان مرتبطاً بالدعاية التجارية والاعلان، ثم ما لبث أن استغلت الثورات الشعبية هذه الأداة للترويج لأفكارها السياسية ولتوعية الجماهير. وجد الثوار في الملصق السياسي القدرة على التعبير عن صرخة الاغتصاب والظلم، وأحلام الاستقلال والتحرر، كما وجدت به السلطات المستبدة المتغطرسة وسيلة تضليل إعلامية في نوع من الحرب الدعائية المضادة. وهكذا وجد الملصق السياسي دوراً تحريضياً وتثقيفياً وتعبوياً قام به تباعاً في الحرب العالمية الأولى والثانية، في الحرب الاسبانية، في كوبا وفيتنام، في حرب أكتوبر 1973، كما في قام به على أكمل دور في الانتفاضة الفلسطينية.
أديب خليل, مجموعة متحف فرحات |
بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، تشرد ثمانمئة ألف فلسطيني وتشتتوا في أقصاع البلاد، وكان على هذا الشعب اللاجئ انتظار الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ليحصل على ناطق رسميّ باسمه. وقد ساعد ظهور منظمة سياسية ذات سيادة في تشكيل طبقة سياسية جمعت كل الأطياف الفلسطينية اليمينية واليسارية تحت لوائها، ليبدأ النضال من أجل التحرر ومقاومة المشروع الاستعماري الاسرائيلي. كانت منظمة التحرير الفلسطينية منذ منتصف الستينات وحتى بداية الثمانينات (أي حين كان مركز المنظمة في بيروت) في أوج نشاطها، وسخّرت كل طاقاتها من أجل إعلام موحّد، خاصة وإن الاعلام الدولي الذي غطّى الاعتداء الاسرائيلي عام 1948 سرعان ما نسي الأمر وأصبح في أفضل الأحوال غير مبال بهذه القضية، بينما كان الاتجاه الطاغي تبني وجهة النظر الاسرائيلية للموضوع التي تنادي بأحقيتها للأرض المقدسة.
ونشط الاعلام الفلسطيني الموحد في التصدي للبث التلفزيوني المعادي حيث لم تمتلك منظمة التحرير محطة تلفزيون في حينه وخاضت حربها الاعلامية عبر المنشورات ،المعارض المتجولة، التحقيقات الصحفية والملصقات. وأنتجت منظمة التحرير نتاجاً ضخماً من الملصقات، التي أخذت تروي بالنسخة الأصلية والحقيقية رواية الشعب الفلسطيني، وتضحد للجميع مصداقية القول الإسرائيلي المأثور بأن فلسطين "أرض بلا شعب". كان الملصق أداة للتوثيق، وسجلاً تحدّد فيه الجرائم والمذابح والاعتداءات، يؤرشف حقبة مظلمة من تاريخ فلسطين.
بين الواقعية والرمزية
يلاحظ الزائر لهذا المعرض تعدد الأساليب الفنية التي عالجت الملصق، كما يلاحظ غلبة التفاصيل والاختزال التعبيري في هذه الملصقات. تعددت أيضاً التقنيات المستخدمة من تلوين زيتي الى مواد مختلفة، ومن الحبر والمائيات الى استخدام التصوير الفوتوغرافي في الكولاج.
أما الموضوعات فضمت مناسبات عدة مثل يوم الأرض الفلسطيني 30 آذار 1976، اسبوع التضامن مع الاسرى والمعتقلين 17-24 آبريل، ذكرى انطلاقة الانتفاضة عام 1965، ويوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني 29 نوفمبر، كما شملت الانتفاضات والهبات الشعبية، الطفل والمرأة وقضايا اجتماعية أخرى.
ونرى الملصق مدافعاً عن التراث حين يؤكّد هوية الزيّ التقليدي وهوية الزيتون، البرتقال والقدس، وتصل الرسالة إلى المتلقي عبر رموز تحمل دلالات فكرية مستوحاة من الذاكرة الشعبية والإرث الحضاري الفلسطيني. رماة الحجارة، الفدائي، البندقية، والحصان.. هذه الرموز تشير إلى الثورة أما الديك فهو من علامات النصر، في حين تحمل الكوفية علامة النضال والقضية. وتتكرر في الملصق صورة المهن اليدوية، العمال، المطرقة والمنجل وهي تدلّ على البروليتاريا، وتؤكد على الفكر الماركسي الذي تقوم عليه بعض الفصائل الفلسطينية. وللألوان دلالاتها ايضاً.. فاللون الأحمر، زد على كونه من ألوان العلم الفلسطيني التي تكاد لا تغيب عن اي ملصق، هو دماء الثوار وتضحية الشهداء والطريق الوحيدة للوصول إلى الحرية.
غازي أنعيم , مجموعة متحف فرحات |
في ملصقات غازي أنعيم نجد البساطة في استخدام التراكيب التأليفية للعناصر، واستخدام المفردات البصرية المباشرة على مساحة لونية موحّدة، التأكيد على الواقعية وحتى اللجوء الى الصور الفوتوغرافية المباشرة. أما عند أديب خليل فنلاحظ الاختزال الخطي في التكوين، واعتماده أحادية الرمز حيث يلعب الديك أو الحصان دور البطولة في أعماله. وبينما الاستعارات نحت نحو السريالية في اعمال علي فرزات فقد ذهب عوض العميري نحو التسجيل الواقعي للأحداث. وقد افتقد المعرض حضور أعمال سليمان منصور ومحمود صبح بالشكل الكافي حيث لم يعرض إلا عملاً فنياً واحداً لكل منهما، وكليهما يتمتعان بقيمة فنية عالية بالاضافة الى كونهما من الاعمال الزيتية القليلة التي ضمها المعرض، بالمقابل شهد المعرض حضوراً مكثفاً لأعمال زهدي العدوي التي تمتاز بغرافيكية خطية إلى جانب التقشف اللوني معاً يأتيان في خدمة الفكر أكثر من استدرار عاطفة المتلقي.
الملصق الآن
قد يقول البعض أن هذا الملصق قد فقد قوته التعبيرية كونه مسلوخاً عن زمانه، حيث أصبح المتلقي يتفاعل مع رموز هذه الملصقات وتركيباتها بالتهميش والالغاء، وذلك لأن رموزه أصبحت "كليشيه"، قد سبق رؤيتها مراراً وتكراراً حتى فقدت قوة وقعها وقدرتها على استفزاز وتحفيز ذهنية المتلقي الفكرية والعاطفية. ولكن هل هذه هي الاجابة حقاً؟
أجدني اتساءل اذا فقد الملصق الفلسطيني غايته فهل يقلل ذلك من أهمية جماله الفني كونه لم يعد نفعياً؟ وإذا كان الامر كذلك فهل تسقط معه أيضاً القيمة التاريخية الوثائقية لهذه الملصقات؟ وهل يصبح جمعها ضرباً من ضروب الجنون؟
إن أهمية هذا النوع من المعارض يكمن في إحياء الذاكرة واستنهاضها، نحن أمة لها قصة ولها ماض، وتربية النشئ لا تتم إلا بالنظر ملياً الى الماضي، فمن لا تاريخ له لا حاضر له ولا مستقبل.