Sunday, March 17, 2013

مقدمة كتاب "أبعاد مثلث الإتفاق الفني" للفنان والباحث عدنان المصري

الفنان عدنان  المصري  1937-2010

في حديث اطرفنا ذكره في الكتاب عن كلمة صينية قديمة بليغة تقول " إذا كان لديك رغيفان من الخبز فبع أحدهما واشتر بثمنه باقة من" الزهر " واحتفظ بالاريج لنفسك عله يدفعك إلى طرد أوهام السلاح والنار وما ينطوي كل منهما من عدوان . 
إن أقدس ما يعطيه فوحها وعطرها أنها فانية في جمالها الحي وباقية في ذكراها العطرة . والراضون عنها لقليلون , بينما الكثر من الناس هم المساهمون عما يرون والمقلدون  هم الذين  يخشون الحياة في التجديد والابداع والخلق , مفضلين عندهاً بقاء التحجر محل الحياة ووحشته بدل السعادة . 
إن جوهرالحياة هو التسامي نحو النور , لا الهبوط ولا الإستسلام لأعماق الظلام , وإن بدا كل منهما على حده وظاهرهما ضدان متقابلان , إلا انهما في السعادة والشقاء طرفان متضامنان متحدان يقابلان إنساناً  مخلوقاً مغامراً تستهويه الأعماق ليستطلع منها كل ما هو غامض وخفي . 
لقد عاش الانسان بينهما ولم يزل يعيش مخلوقاً كما قلنا نبيلاً متحداً بالقيم العليا التي يسعى إلى تحقيقها من خلال تجاربه . وما الحق والخير والجمال إلا  المثل التي يرمي إلى بلوغها عن طريق الفعل واتباع الذات في انفعالها والموضوع ( الظاهر) بالسيطرة عليه وأخضاعه لهواجس الانسان بوصفه سيداً عليه .فمعرفته بالعالم أو المحيط الذي من حوله تعني أيضاً قدرته على الابتكار والخلق . انه عالم لم يأت من العدم لأن العقل الذي أوجده لم يبلغ الكمال في الصنع . فكل  ما جاء به هي قدرات تعلقت فصنعت ولم تبلغ أكثر بصنعها من مرحلتها الأولى . وهذا معناه أن التجربة التي أولت اهتمامه لا تزال في مهدها تسعى الخلاص في الألوان والأصوات وما تعطيه العين من رؤى لا تزال تخدعه فتحيره . 
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند العديد من الناس في هذا العصر وغيره من العصور السابقة , ان الفن هو المحاكاة والتقليد , أو هو المهارة في النقل  , أوتكرار ما وجد في الطبيعة من ظواهر  أنه هو الأفضل  وما عداه ليس بأفضل . فالتعريف هذا لثقله ليس بتعريف للفن بالرغم من وجود جهود كبيرة قام بها الفنانون ويقومون ليؤكدوا عكس ذلك .  اذ هو يعني  كما كان في العصور القديمة وفي نظر البعض منهم خاضع لنظرية المتشابهة التي عراها افلاطون بمقالاته حين اعتبر الرسم بكل ميادينه يشبه الرسم بالمرأة الموجود فيها . والرسام أقل شأناً من الشاعر والفيلسوف , لاعتبارات أكدها مراراً , من أن غاية الرسم في  عصره هي نقل المنقول أو تقليد المظهر لا تقليد الحقيقة , والحقيقة لا تقلد وهذا الطبع بعيد كل البعد عن الواقع والحوار معه . 
ولما جاء عصر النهضة كان البرتى من المؤمنين بجمال الكون وبأنه " أروع الجمال الله " فلا يجوز ترك تقليد الطبيعة والتـأمل بها لانتقاء أجمل النماذج عنها . هكذا استند المذهب المثالي الكلاسيكي إلى الطبيعة وهكذا روج له ليظل في ذهن الناس أنه هو الصحيح الذي يجب ضاربين الحائط بكل الجهود التي تقام بها الفنانون والعلماء في ميادنهم : من أن الفن هو منهج قبل أن يكون طبيعة , وإن الاغريق في فنونهم كانوا يتبعون الرؤية البصرية للطبيعة بدون مناهج , لذا وقعوا في التقليد ,لا الفن وسموا حرفته صنعة . 
ظلت هذه الأفكار سائدة في صفوف الناس يرفضون تبديل أو الإستغناء عنها , ظناً منهم أن صور الطبيعة هي الصحيح الذي ارتضاه الله , فغيره معصية , لذا يجب المحافظة عليه لأنه مسكن للالهة . 
مرد هذا الفهم أنهم لم يعتادوا على قراءة اللوحة وعلاقاتها بالطبيعة  والنفس البشرية ,أو أنهم لم يدركوا اهميتها لجهلهم بحقيقيتها . مع أن العلم الحديث بمجالاته الواسعة واستيعاب  مجازي العالم والطبيعة قد أوضح سبل التعاطي مع الفن خاصة فيما يتعلق بتزويده بالمعلومات الكافية التي لم يكن على علم بها سابقاً هذا الفن .
السبب أنه ,أي الإنسان قد نسى دوره في المحيط الذي يعيش فيه والتزامه نحو الأفكار التي بنى عليها وجوده منذ أن كان بدائياً وحتى أصبح فيما بعد حضاريا ً. من أن السمع والبصر واللمس كلها  نوافذ مطلة على العالم لمعرفة أسراره وما هو أكثر جوهرية في الحياة الواقعية الاجتماعية . 
إن النشاط الفني الذي أبداه الانسان في تجواله حول معالم الطبيعة قد أعطى دفقاً  قوياً لتطوير الفكر الإنساني وأدى إلى حد بعيد إلى صياغة العلاقات الإبداعية مع العالم المنظور والخفي . لقد تعلم الإنسان منذ البداية أن الطبيعة يجب إعادة تشكيلها من جديد ولكن بشكل مثالي . بدءاً بالمخيلة وإنتهاء بالممارسة . وإن "الأنا" أي الانسان له علاقة بالاخرين "الهو" و من خلالهما يبنى المجتمع ككل . 
إن الجهل اقعدنا عن التفكير , وهو أكثر تأئيراً من سوء القصد , بحيث لم يعد لدينا بسببه القدرة على استيعاب كل جديد , منه قراءة اللوحة وما تهدف إليه من نفع في الرغبات والأماني . لقد كان الفنان منذ القدم هو الوحيد القادر على تشكيل المادة وفق قوانين الجمال المتبع في الطبيعة وهو أيضاً  القادر على بناء (الخلية كالنحلة ) التأليف داخل رأسه قبل رؤية النتيجة . بمعنى أن البداية قد وجدت في مخيلته بشكل صورة مجردة بحتة . لم يلامسها التجسيد إلا بعد إدخال ما اعطته الطبيعة من كسب في الرؤية الحسية غير بموجبه مسار الهدف الفكري بأن ألزامه بالوعي بأن يكون له جسداً معروفاً . وهذا بالطبع ما يفتقر إليه العامة عندما يرون أن العمل الفني قبل تحقيقه يسبقه استعداداً فطرياً   مغلقاً بالعلم , فهو ليس بالصنعة , مهارتها معروفة وطرق تطبيقها مستدركة بحيث " فحصها " يكون من المهارات المعروفة التي تعالج عطلاً أصاب "جسداً" هو عبارة عن ألة مدى معرفتها معروف واصلاحها أكيد . 
إن العامة يريدون بدون جدال عملاً منتهياً مطابقاً للواقع . كالشجرة الصالحة التي لا تحتاج إلى عناية , وبقدر ما هي بصحة جيدة فان تقبلها والقبول بها مقرون بالمديح . والعكس غير مقنع لأنهم لا يريدون ظاهرة أو بحثاً يحتاج إلى نقاش مفاده أن ما يملكونه هو صالح ومطابق لحاجات المجتمع وقوانين الطبيعة وسهل الاستماع . فكما أنهم ورثوا الطبيعة كما هي وبعلاتها واعجبوا بها كذلك يريدون من العمل الفني الحاضر أن يكون عملاً مطابقاً للطبيعة يقارن بها . لأنها هي المثل الأعلى لكل ظاهرة ينتجها العقل , ومن ثم فإمتلاكه ضرورة لأنه مثلها ممتلك ومفيد . 
إن ثقة المتفرج و المشاهد بالفنان جعلته يهتم كثيراً باستبعاد الأخطاء الواقعية وما يصنعه الفنان من أخطاء في الرؤية  أو الحس عند معالجته موضوعاً واقعيا ً في لوحته . وبقدر ما يكون العمل الفني ناجحاً يكون ايماناً . فإن ثمة إيماناً يسكبه المتفرج على الفنان بأن عمله هو الواقع ذاته المطلوب, ومن عمل الإلهام الصالح الموجود في الفنان الاَتي من الغيب سخرة لصالح البشرية . 
لقد قام بعض علماء النفس بإجراء بعض التجارب لتحديد أنواع الإستجابات الجمالية , التي يمتلكها بعض الافراد كعينة لمجتمع تكثر فيه هذه الاستجابات . ربما  لا تكون هذه هي الصحيح  المطلوب , بيد أنها تعني أن هناك أموراً غامصة لا يحددها العلم كنتائج علمية يمكن الاعتماد عليها نهائياً, كما يدعي بنتائجه , وهو تحصيل خاطىء , لأن ليس له قرار نهائي يمكن معرفته في العلم . بل الوصول إلى محاولات هي بالحقيقة لا تعني شيئاً سوى أن العلم ليس له قرار نهائي وإنما تجارب الغاية منها الوصول إلى المعرفة الحقيقة . وهذا مستبعد الان لأن الانسان لا يزال في أول الطريق _ طريق المعرفة . 
قلنا أن بعض العلماء بعلم النفس قاموا بتجارب لمعرفة أنواع الاستجابات الجمالية المخزونة في نفوس الناس . كانت النتيجة بعد استخدامهم صوراً فنية وقطعاً موسيقية وألوان متفرقة , ان هناك أربعة نماذج من الإستجابات تخص أربعة أشخاص وهي : 
1 _ النموذج الذاتي العضوي  أو الشخص الذي يملك القدرة على معرفة الإحساسات الداخلية وكيفية الشعور بها . 
2 _ النموذج الموضوعي وهو الشخص الذي يتخذ موفقاً عقلانياً ليحكم من أن الصفات التي براها لها ميزات تخص الشكل وارتباطه جمالياً بالتعبير الصادر عنه . 
3_ النموذج الإرتباطي , أو العمل الفني الذي يثير الذكريات عند الشخص فيحيلها إلى رباط ما بين شجون ذكرياته وبين العمل الفني كعامل للإثارة . 
وأخيراً النموذج الخلقي , أو الرؤية إلى العمل الفني وكأنه شخص مجسم له  صفات عديدة تؤكد أن هذا العمل الفني له طابع الكاَبة أو الخوف أو الفزع أو التعاسة أو الخمول... أو الألام . وهي كلها لاتخص الشخص المشاهد وإنما العمل الفني . من خلال وجدانياته التي صنعها الفنان وشاهدها المتفرج  بصرياً وإحساساً . 
وهكذا  يستمر الكتاب في العطاء مستفيداً من تجارب البشرية وما خلفته من أثار هي بالحقيقة تخفيف لما يعاني منه الانسان من ضغط في تحقيق رغباته وانفعالاته اللا شعورية المكبوتة . 
ثمة شيء لا بد من ذكره وهو أن الأيات الفنية من إبداع وابتكار هي عملية تعويض لما فقده الانسان خلال صراعه مع ذاته الأنا ومع الاخرين الهو. فالإنفعالات المؤلمة  المتصلة باللاشعور هي أقوى بكثير من الإنفعالات التي تخص الحس . والمجادلات التي يستهدفها الانسان من خلال تعاطيه مع الفن هي أن كل محاولة جديدة يبتكرها مبدعها تعني الخروج من حدود الواقع بربطه بحدود الذات . والعكس صحيح أيضاً لأن الحقيقة بقيمتها المطلقة لا تخص قوم بل كل الاقوام . وما استنتجه الفنان بصراعه مع الحياة هو أن الإنسان مخلوق عجيب فيه كل المعاني الموصلة إلى معرفة الكون . لقد قطع شوطاً كبيراً في انشطته الفكرية والاجتماعية وفي أخر مطافه اعتبر بعد حصوله على تجارب عديدة في الطمأنينة والاستقرار أن وثبته الأخيرة في النشاط الفني تعني أنه لن يسير في خط مستقيم كما فعل سابقاً بل سيقفز من مستوى إلى مستوى متحدياً القديم في أعماله متحرراً منه ساعياً إلى  خلق صورة جديدة فيها الانسان الجديد هو ليس بالصانع فقط ولا هو بالساحر ولا بالمتدين وإنما هو المنظم الذي يدرك الاشياء للاستيلاء عليها وذلك عن طريق قطع المسافات وإرجاعها إلى الذات فهي أقرب إليه من  العين ذاتها والشم والذوق والسمع وكلها حواس نوافذ على الطبيعة التي هي جزء منه لا عليه وللحصول عليها لا بد من ارتقاء يقضي على المستوى النفعي للوصول إلى مستوى الجمالي وذلك عن طريق اغلاق النوافذ والعيش بالذات الذي هو وقار القلب . 

بيروت 2000  
    عدنان المصري

لقراءة المزيد الرجاء الضغط على الرابط أدناه 
http://adnanelmasri.wordpress.com/adnanelmasribook/ 

 أعمال الفنان عدنان المصري 




No comments:

Post a Comment