Saturday, June 2, 2012

معرض الفنان مصطفى حيدر ألوان قوس قزح في العمارة والطبيعة , بقلم زهير غانم



Mostafa Haidar , Farhat Art Museum Collection
مصطفى حيدر , من مجموعة متحف فرحات


 لوحاة بالألوان المائية <الإكواريل> كبيرة الحجم، مشعّة شفافة· وزجاجية الضوء· حصيلة معرض جريء للفنان مصطفى حيدر في بيروت، وهو الفنان القدير المحترف العازف عن العرض إلا في أوقات متباعدة· وعبر سنوات· إلاّ أن ملكته الفنية مازالت على حيويتها واتقادها، فهو من فناني الإكواريل المتميزين بعد الرعيل الأول· ومن ضمن المدرسة اللبنانية·
التي حفرت مشهديات الطبيعة والعمران التراثي· ولبنان الأخضر في الكثير من اللوحات· كان له أن يبزغ في هذا المجال· عبر رؤيا شرقية إشراقية، في تشفيف الألوان· وتبريقها· وتدوينها على الورق· بحساسية فنية· ورؤيا جمالية· احتفالية ومشهدية، في تحليل الضوء· أو تحليل الطيف الضوئي· والذهاب إلى ترسيخ أقواس قزح في ألوانه التي تكلل الأشكال التي يتراسمها، وهنا يتراسم مدينة، تذهب ريشته فيها· مذاهب بنائية، عامودية في العمارة· وربما في تشبيح العمارة وتطييفها، بالاستغناء عن تجسيمها، وتراسمها واقعياً، بينما ينسج هذه المدينة المسحورة بالغيوم في داخلها، الغيوم أو الدخان، ككتل محدبة منحنية· مليئة بالشجن الغنائي، على أنه كمن يتراسم بيروت· كما هي في مخيلته· وربما مدائن ألف ليلة وليلة· أو مدائن النحاس ومدائن سندباد، لأنه يتراسم بيروت من البحر وظلال أبنيتها العامودية في الماء· هنا يتداخل الأزرق والرمادي· مع ظلال العمارة بالألوان الدفيئة·

Mostafa Haidar , Farhat Art Museum Collection
 مصطفى حيدر , من مجموعة متحف فرحات


وتتظاهر الشفافيات، في الأضواء والظلال معاً· وكأنما عمارات المدينة العامودية، غناء أوبرالي سوبرانو الصوت، وكأنها عمالقة أجساد بشرية· تتراصف، وتتجاور· ويزحم بعضها بعضاً، وكأنه يلقي على بيروت تعويذة لونية قزحية، فيجعلها مدينة متخيلة موقوفة· شامخة، بل أنها تنطوي على أسرارها· وتتحول تحت ريشته إلى مدينة مسحورة بامتياز المشهديات التي يتحاصدها فيها··! هكذا هي سوانحه الفنية، دون أن ينسى أسلوبه الفني في مشهديات الطبيعة، فيعرض منظراً طبيعياً بالأخضر· وهو لا ينسى أن يتفاصل فيه بتلك التخوم البيضاء بين المساحات اللونية للأشكال· وهذه من تقنيات ألوان الإكواريل· ترك الخطوط البيضاء· أو الورقة دون تلوين، مما يفضي إلى جغرافية اللوحات، وخطوط طولها وعرضها، وجعل العين تتجول فيها عن طريق الألوان الشفافة المضيئة، والخطوط البيضاء بين الأشكال التي هي تخوم· تساعد العين على الإنسياح على اللوحة دون حدود فهي تترك كحدود أحياناً·

Mostafa Haidar , Farhat Art Museum Collection
مصطفى حيدر , من مجموعة متحف فرحات


وتترك كلون وضوء أبيض لتوريق اللوحة وتوريفها وخلط معادلات الألوان داخلها، عبر شفافيات، وكيماويات خاصة ورهيفة ينطوي عليها فنان الألوان المائية· الذي يجب أن يتعازف أنغام الوانه دون أن يخطئ فيها، لأنه لا يستطيع إصلاحها أو مراجعتها، من هنا خطر اللوحة المائية، فإما أن تكون ناجحة معقولة جميلة وحساسة، وتريح البصر والبصيرة، معاً· وإما لا·

ومصطفى حيدر في الإكواريل، محترف ومبدع، ولوحته لا يوجد بها خلل، وليست عرضة للمراجعة، وهي ناضجة كما هي، فرحة للعين، رغم الحزن البادي في بورتريه امرأة، داخل مقامات وإيقاعات من الألوان الحمراء· وغيرها· إلاّ أن ذلك لا يخمد أقواس قزحه، ولا يجعلها كابية، بل هي في نضارة أطيافها وشفافياتها اللونية، من خلال حساسيته وحاسة التلوين وكيماوياته، وحاسة الريشة التي تبدو أنها تتراقص على لوحته، رغم الهندسات الأفقية، والعامودية أكثر التي تطوّرت إلى بنائية في اللوحة أكثر من غنائية كانت سابقاً··!

Mostafa Haidar , Farhat Art Museum Collection
مصطفى حيدر , من مجموعة متحف فرحات


وواضح الإنفعال والقلق في لوحاته، من خلال هذه الأبنية السامقة المتفاصلة المتواصلة، وكأنها مدينة موحّدة مفرقة، وهكذا بيروت الآن بمجاميعها البشرية التي تتجه اتجاهات شتى· وهو يحلم بوحدة المدينة ومتانتها· من خلال تقاربات الأبنية وفراغاتها، واختلاف تونات الألوان فيها· إذ المدينة مكان الإجتماع البشري، وتلبية حاجات هذا الإجتماع، إلا أنه يوحي بعنف المدينة الكامن في تلافيفها، من خلال حدّة الألوان العامودية التي تبدو كالشفرات، والرماح، والعمد وألواح الخشب، هذه الحدة تتأتى من العنف، ومن تبدل طابع العمران في بيروت، حيث قضت الحرب على جمالية العمران التراثي· وجاءت بالعمران المنفعي الذي يستعمر فضاء المدينة، ويستعمر أو يغتصب هواءها ايضاً، من خلال تحجيرهما أو تزجيجهما· أو معدنتهما معاً·

هكذا يطل الفنان بأسلوبه المائي الجديد، متخففاً من غنائية ورومانسية طبعت أعماله القديمة في معارضه، لكنه يطل مؤسساً· وراسخاً في توريق الألوان وتوريفها، وهو هنا كمن يختبر نفسه في التنوع، عبر وحدة شخصيته الفنية· وخاصة في فن الإكواريل، حيث يمارس رسم الزيت والإكليريل· وما اللوحات التراثية التي رسمها في مطعم على البحر في صور خاصة لوحات الآثار· سوى دلالة على طاقته على الإنجاز الفني بمواد متنوعة، لكنه يظل في فن الإكواريل· أشد نصاعة وأناقة، كذلك أشد رقة وشفافة ورهافة، وضوءاً، وأكثر حذراً في استخدام تقنياته اللونية المائية· كأنما يخلق جاذبيات بصرية فيها الكثير من الراحة والرؤية· والرؤى والإنسجام، ربما عكس انفعالاته الفنية واللونية الجياشة التي لديه· يضطر هنا إلى تصفيتها، وتنقيتها من الشوائب والأخلاط والأمزجة، التي يمارسها في غير اللوحات المائية، دون أن نغفل أنه يمارس تلوين لوحاته المائية بحساسية وانفعال جمالي إنساني، يجعل رؤيته أكثر طراءة وطلاوة، للأشكال التي يتراسمها· والتي تشف روحه فيها عن نورانية ما تمتزج بألوان الطيف وأقواس قزح·

Mostafa Haidar , Farhat Art Museum Collection
مصطفى حيدر , من مجموعة متحف فرحات