Tuesday, July 10, 2012

الانسان والطبيعة والتيار المتفجر بينهما , بقلم الفنان الراحل عدنان المصري


لو عنينا بالطبيعة ” عالم الظواهر المرئي فقط” لاغفلنا ادوار العقل في تحديد مكنوناتها، ومن ثم لوقف النظر عند نطقة تلمسها؛ حتى الشعور لا يسلم هو أيضاً من الجفاف حين يرى العقل لا يستقبل المواضيع والقوانين والعلاقات الطبيعية التي منها يأتي حدود هيئته وما ينتابها من خصائص تدفعه لأن يكون سيداً. وعلاوة على ذلك يقترب ” عقل ” الإنسان بهذه الحالة الى عقل الحيوان وينحصر نحوه بنحو جرثومة البدن. وهذا مستبعد طبعاً لأن ميل الإنسان الى التفكير في الأفعال يحتم عليه الاقتران بالعقل الإنساني والتقرب من طبيعة وجوده في عالم الظواهر. وحين يشغل العقل حيز وجوده ينطلق الى تحديد كل ما يحيط به أو تحديد ما يساعده على ابراز هذا الوجود أو الواقع والعمل على اثباته عن طريق الوعي به.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات 

مجرد القبول بهذا الاقتراض لا يعني التسليم به، لأن مكانة الانسان بواعها تحدد زاويةالرؤية وخاصيتها عنده. وتحديد الرؤية مع العقل معناه تحديد الذات الإنسانية التي تفرض بعد تلمس شفافيتها الاحاطة بكل ما هو حولها سواء أكانت هذه الاحاطة ملموسة تقع تحت طائلة الحواس أو كانت مجرد انطلاقات فكرية تذهب الى حد ابعد ما يتقبله الواقع.
والزيادة في الانطلاقات الفكرية تعني عند البعض وهم أو شبح يحيط بالعقل، ولكن هذا الشبح في حد ذاته يؤكد دلالة وجود صاحبه… وهذا ما نريد الوصول إليهن فالانطلاق الفكري هو امتداد طبيعي للاحاطة الملموسة والعكس صحيح أيضاً إذا كانت الدائرة العكسية تؤدي بوصولها الى نقطة البدء من انطلاق دورانها.
والدوارن المتواصل في جمه هو الذي اعطى الحياة للإنسان، وبه امتد نسيج العقل ليغرف من نسيج الطبيعة الخام ما يتناسب وحبكته.
هذا إذا كان نسيج الأخيرة خاماً لم تتحسسها الصور ولم تكن في تشكيلها الأول وحدة متكاملة، اثبتت وجودها فيما بعد على النحو الذي ارتضاه المبدع الأول.
فالخامة المفروضة والإنسان جزء منها – إذا جار لنا هذا القول – هما مادة لها تعريف بأن المادة لا يصدر عنها الا مادة باستثناء عقله كتفكير، توجب علينا الانتباه الى أن الطبيعة في سجل اسرارها لها “مواد أخرى غير تلك التي اعتدنا عليهان تعطي من لدنها مواد تخالف أصول الأم بحيث يأتي فيها ما لم يكن في الحسبان؛ منها أ العقل ليس بمادة وهو بذلك مخالف للقاعدة التي تعتبر المادة في ولادتها تلزم مكوناتها أن يكونوا مثلها الا العقل في دفعات تفكيره، لأنه النقيض الذي منه تاتي نعمة البيان لتسوغ ما بدا من ركود الظواهر في مكانة الخامة لتحيله الى مواد ثابتة يمكن الاستفادة منها وذلك باظهارها بمظهر المتحيز غير ذلك الذي الفناه وهو في الطبيعة بمعنى أنه ليس من المعقول بعد كل هذا أن نعطي حكماً على شيء بأنه عديم النفع قبل ان نخضعه من قبلنا للدراسة والتمحيص خاصة طبيعته العميقة وتنظيماتها الداخلية، حينها لم تعد الصورة المرئية للظواهر الطبيعية مجرد صورة عديمة لا يأتي ثباتها الا بالحواس فقط وهذا معناه أن العقل رقيب يحيل ما يراه الى التعقل ومن ثم الى التحليل والتركيب.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات

وزيادة في الايضاح لدور العقل ورؤياه الى الطبيعة، أنه عند تحركه في مجال الطبيعة يثبت أنها ليس عالم مرئي يشجع ويحث الانسان على التعاطي معه من خلال عقله لاخراج الشيء من تفانية في الركود الى شيء حي يساند الشعور الانساني بالتزاماته. ذلك لأن العقل لا يشعر بالغربة حيال الطبيعة التي هي مجاله الحيوي لأنه بها يظهر العمل الإنساني بصفة جوهرية نبعد تخطيه الصعوبات التي تأتيه من تجارب الإنسان مع الطبيعة.
وهكذا يمكن القول أن الطبيعة تحمل في طياتها الحقيقة المطلقة التي يسعى إليها الإنسان دائماً لأنه بها يتحرك لإدراك وجوده، فلوللاها لما استطاع التنبوء بطبيعة دوره في الحياة، ولولاها لما أدرك مجال تفكيره وذاته الإنسانية.
الحقيقة المطلقة التي نسعى إليها بعيشنا وتجوالنا هي التي تسقط من حسابنا كل ما يجعلنا بعيدن عنها، فالوحدة المزيفة التي يعرضها العقل حين يحصر الطبيعة باطار المرئيات فقط دون الاهتمام بالمجهود الذي يبذله للسمو بنفس عن طريق التامل والملاحظات والتجربة، كانت السب لقلقه فيما بدا من من تعب وقلق وهو توكيد على اتجاه حو دراسة بكل ما من حوله من ظواهر ليتسنى من خلاللها الى معرفة الحقيقة المطلقة التي هي جوهر الكون. عندها العقل لا يسمح بالوحدة المزيفة عند التفكير ولا يقتنيها ولا يستعين بها للدخول الى الشعور الإنساني بل يتعداها معتمداً على المواقف الراهنة التي يقفها تجاه الطبيعة، فما التعليل بعد اظهار التجريد الا قوة دفع نحو تحليل الظواهر الطبيعية عن طريق العمل بها ومن ثم الخروج منها بنتائج يأتي منها اثبات وجودها امام منتجها الذي هو بدوره عن طريق احتكاكه بالطبيعة كائن موجود يحركه العقل يدفعه نحو الاستمرار بالبقاء بغطاء مفاده الافادة وعرضها على الآخرين ليثار من حولها النقاش والجدل المفيد.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات

ولعل ابرز ما يفيد الانتاج المقرون والجرأة بمدى صحة ما يعرضه الإنسان المفكر على الآخرينن أن العرض من انتاجه ما بين ما اكتشفه واذل وأبعد ما يزيفه كان العقل في ارتياح وقناعة ينتظر النتائج التي هي بمثابة تدرج القبول الى المعقولل من ثم الى مفيد.
على أي حال أن الطبيعة تنذرنا بوجودها وتنذر العقل بعدم اغفال سعيه نحو اثارة تعريفات تكون بمثابة خطوة يأتي منها نفق هو دليل على أن التعاريف بوابة علاقة ما بين ما هو مخزون في الشعور والوجودان وكذا ما هو مخزون في الطبيعة.
لقد كان الماضي خزان أمان وصلة وصل ما بين الإنسان والطبيعة دون معرفة أسباب هذه الصلة أو الدراية بما تحويه هذه الأسباب من قوة دفع نحو جرنا الى ربط الماضي بالطبيعة والأحاسيس التي نملكها بعد خرق المزيف منها.
أن الحاجة للربط ما بين الماضي الذي فينا والطبيعة التي من حولنا عطف علينا واستدراك بالأشياء وتحليلها لمعرفة أنها مفيدة والا تسقط من حساب الحقيقة.
صحيح ان الماضي لا يظل دائماً في نطاق تفكيرنا لكنه ينطوي على الاتجاه الذي نسعى الى تحقيقه، أما عن طريق الميل أو عن طريق التصور الذي يمكن ان يأخذ منه ولو جزءاً ضئيلاً ينير به آفاق المستقبل للإنسان خاصة  ما يتعلق بشخصيته. مما يعني أن بناء الشخصية لا يأتي الا عن طريق تكويس التجارب من حوله مع المراعاة ان العمق الذاتي لها لا يتغير ولا يعود والقهقرى الى ما هو قبله بل يتحفز دائماً الى الانطلاق باعتبار أن الشخصية بما تملكه من عمق تنضج ونضجها أنه لا يقطع ولا يقف عند حد بل يستوعب كل عنصر يأتيها لتحقيق ذاتها.
العنصر الجديد وما يملكه من عناصر سابقة عليه هو حلقة التزام بالسابق واللاحق وما سيأتي من بعدهما. فالتسلسل بالحلقات الموروثة وما يستجد منها هي استمرارية وجود الذات الانسانية واستمرارية أصالة الطبيعة في دعتهما وما بينهما من ترابط لا ينقطع ، فلا الاننفصام يلحقها ولا التقوقع.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات

قد يقول البعض أن للمادة بداية قبل ان تصل الى حالتها الحاضرة منها ظواهر الطبيعة، وأن الإنسان استقبلها بحالتها المرهونةة، كل شيء أمامه مرهون حتى ذاته هي الأخرى مرهونة ولكن بنطاق تحفزها نحو التعاطي مع الطبيعة، وان كان هذا الانسان مرتبط بها من خلال حدود وجوده وحدود ما يستطيع التكهن به فهو يقترف باسبقية الطبيعة عليه ويعترف أنها لولا وجودها لما استطاع أن يوجد ويتفاعل معها.
ولكي يستمر في وجوده ويحقق ذاته فيها أوجد الطبيعة الإنسانية نداً للطبيعة الطبيعية وخلفاً لها بعد سيطرته عليهان فكانت استنتاجات تجاربه مفتاحاً به يأتي تعاطيه مع الواقع. ومن الخطأ الشائع الذي دائماً نفع فيه دون الرجوع عنه هو جعل فكر الإنسان ينتمي الى مذهب فكري بأنه هو الحق وما يأتينا من عالم الغيب من فكر مرفوض فكانما عجلة الزمن استوقفها العطاء وباتت رهينة لدوامة اجترار ما كان في الماضي ناجحاً. ان للزمن محطات يسجل الفكر فيها ما ارتأه ناجحاً ولا يقف على نفسه أبواب المستقبل، لكي يستمر الزمن في خلق محطات ابداع وما يأتيه المبدع من ابتكارات.
ومن الخطأ ايضاً رفض انتماء الانسان الى اي مذهب فيه ما يصلحه ويدفعه نحو الأفضل، فتجاربه الصغرى لا تركن ولا هي ملك للمكاتب للحفظ. بل ملك لمن يحتاج التواصل والبحث.
ولكن بعد كل هذا ما هو الأصح والنظرة الصائبة حيال استمرارية افنسان نحو تحديه للطبيعة والهيمنة عليها. الأصح هو بذل كل ما يلزم لخلق ظروف تناسب النظرة الصائبة. والابتعاد عما يجعل الفكر يرزح تحت وطأة القيود التي تمنعه من استمراريته في التحدي. ان استجلاء القضايا العالقة فتح مجال امام الإنسان المبدع أن يحلق ليفوز بالانتصار على الطبيعة وكشف ما تحويه من استمرار تعود بالخير على سيد الكون.
جميع الناس يتحدثون عن الفنان ويجهد بعضهم ان في هذا الحديث وسيلة للسلوك وكذا للمتعة لكنهم نسوا أن الفنان إنسان مبدع يحتاج الى التروي والصبر لخلق ما لم يستطيع الآخرون تحقيقه لكثرة العراقيل التي يجابهها في عمله وكشفه خبايا الطبيعة. أولى هذه العراقيل الاعجاب بما هو قائم في الطبيعة وعدم المساس به فكأنما هذا الموقف لشدته يذكرنا بالتيارات التي عانت منها اوروبا في القرون الوسطى وما تلاها من قرونن فتمجد الطبيعة وهو مذهب لجان جاك روسو قد دفع برينان أن يقرر بحدة أن الطبيعة خالية من الأخطاء في الرسوم والعالم جميل ان لم تمسه يد الانسان. مما دفع برسكن أيضا او حثه على دعوة الفنانيين الىاحترام الطبيعة والخضوع لها خضوعاً أعمى لا خيار فيه ولا اختيار، وعلى الفنان المبتدئ أ يحترس ويبتعد عن التحوير لأن فيه من الابتذال ما يدعو الى عدم التقدم وعدم الثقة بالذات. أما الفن الكامل بنظر محبي الطبيعة هو ادراك كل شيء والاحاطة به ووجوب اعتباره انعكاس للطبيعة جمعاء. فكل ما هو على خلاف ذلك فن ناقص وازدراء بكل ما يحيط به لأن الطبيعة هي المصدر الأوحد لكل فن، وعلى الفنانيين تسجيل الواقع دون اغفال أي جانب منه ومزجه بالمحبة النابعة من الفنان او المصور ذلك ن المحبة هي المام باجزاء الحقيقة الممثلة بالطبيعة بما في ذلك الجمال.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات

وقويت هذه النزعة واشتدت حين ظهرت فلسفة الواقعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فكوربيه كان يحرض على رسم الموضوعات المرئية المحسوسة لأن التصوير عنده هو فن عيني يمثل الأشياء الواقعية الموجودة بالفعل وما عداه وهم وليس من دائرة فن التصوير. اسناداً لما جاء في اقواله يعتبر تصوير حقبات التاريخ ومواقف ابطاله في صنعه لاغ، والفنانو الذين بذلوا الجهد لاحيائه كاذبون لاهون مستسلمون للأوهام، وهذا معناه الحد من الانطلاقات الفكرية عند الانسان وشل طاقاته وحرمانه من الذات. فالجمال كائن في الطبيعة ولقياه لا يتمثل في موقع واحد كالظواهر المرئية بل له من الأشكال ما لا يحصى عدها.
وحينما يتم كشفه في اي موقع من مواقع الطبيعة يصبح ملكاً للفن والفنان بالذات ولا دحل للطبيعة فيه سوى انها المحرض. معنى ذلك ان للجمال موقعاً قائماً بذاته يسكن كل الظواهر ولا ينحصر  في زاوية الكونز فان تجسد عينياً كان تعبيره خلق للفن، والابتعاد عنه الاستهانة به لنه الجزء المهم الذي يحمل في طياته الحقيقة المطلقة، أو النافذة التي يطل منها الفنان لكشف اسرار هذه الحقيقة وما تحمله من مطابقة الفكر للواقع  أو مطابقة بالأذهان للأعيان وما تعنيه الحقيقة من يقين تتوسله التجارب.
ان الفن ليس محاكاة للطبيعة ولا هو مرآة لها أو وسيلة لهو يصنعها الفنان للتسالي، جل ما يفعله هذا الفنان هو خلق الذات الانسانية ووعيها بما يحيطها واخضاعه لاراته. فمزج الألوان واختيار ما يناسبها من اشكال مستقاة من الطبيعة والفكر هو دليل على اهتمامه بالتجربة البصرية التي هي منه وله او من الذات للذات او من عاشق يسعى لارضاء محبوبته بمعنى آخر أن الفن والطبيعة لهما علاقة متينة تربطهما بحيث تكون للأول خدمة في اظهار حسنات الثاني لأن الأخير على حاله يفتقر الى ادلة تثبت حقيقة ما لم يعمل الفنان على تفهمه وجراسته كالعالم في ثباته وجديته. كما نوه كنستابل في كلامه حين قال “… الفن ليس مجرد عمل شعري يستلزم الخيال” بل هو دراسة علمية تقتضي الالمام باصول علم الطبيعة ” النابع من الفكر  والعمل بمقتضاه علما واحساساً.
وهكذا نرى الانسان المبدع الفنان حين يقف امام انتاج يريد معرفته يلجأ الى المعرفةلضبط عما ستكون عليه الصورة بالرغم من وجودها خاماًث في مخيلته تنشد العلم وتحتاجه.ن فكل لحظة يمضيها الفنان أمام اللوحة يمضيها بابتكار يريده العمل الفني معبراً عن نفسه قلق التغيير الذي يفقده الصواب فيأتي عمله جيداً ثابتاً ملتزماً بما يريده علم الطبيعة بأصوله. فسيزان يعتبر ان وراء مظاهر الطبيعة تكمن الحقيقة وعلى الفنان اكتشافها بوسائله الفنية وعلمه. كذلك صرح جوجان وهو من رجال النزعة الانطباعية ان ” الصورة” ليست موجودو في الطبيعة وانما توجد في الخيال ، وعلى الفنان المبتدئ  اعتبار “النماذج” خير دليل على نجاحه بعد اسقاطها من رؤياه وحفظها في الذاكرة ن ملتمساً منها اثارة احاسيسه لابراز شخصيته الفردية المستقلة، وبذا فتح المجال امام ظهور النزعة الرمزية ومن ثم النزعة التعبيرية التي تجعل من الفنان أن يتحكم بوضع لحوته بأكملها وتفسير ما تأتيه الطبيعة من هواجس فنيةة، ولغة وجدانية اسمى من المواقع. بمعنى ان الحالة النفسية  التي هو عليها أو يكون ليست مرهونة بعوالم ثابتة بل تتغير بتغير احوال الفس التي تنشد الاستقرار ومن ثم الشخصية بما لها من ميزات وقوانين تتجه بها الى الترقي في ميدان الدوافع من اللاشعور الى الشعور والأفعال المنعكسة الى الأفعال الارادية، وكذا في مجال النشاط الحركي من استخدام الأشياء الى استخدام رموزها ن أما القانون الرابع والأخير فهو الترقي في مجال النشاط الذهني من الاحساس الى التصور الذهني”.

Adnan El Masri artwork, Farhat Art Museum collection
عدنان المصري, مجموعة متحف فرحات

إذا ما يفعله اللفنان هو رهن بما هو فيه وبما هو عليه ن فكلما كان التفكير صحيحاص وسليماً يكون بالمقابل العمل الفني صحيحاً وسليماً. فالتغيرات التصورية تعطي افعالاً متباينة، وكذا الحال بالنسبة للشخصية.. لكن لا تنحصر التغيرات التصورية الا بالنضج والوعي بما يملكه ، ان اضحى واضحاً كان مسلك التغيرات واضحاً وكذا الذات الفنية أكثر استيعاباً بما حولها وعلى نحو غير محدود، فالعطاء الفني بما فيه من غنى لا ينطوي فقط على خصائص المادة المراد تكيفها ولكن أيضاً ينطوي على خصائص الذات. وهذا تأكيد من نجاحه على ان اتصال الفنان بالطبيعة وعدم الاستغناء عنها امر ضروي.
والخلاصة ان المرء الفنان يختار من الطبيعة ما يتفق ويتناسب مع ذاته فيقتطع منها ما تحدده له زاوية الرؤية عنده بعد جولة من البحث والتنقيب.
وحين يوافق الشعور بما لديه العقل من قوة في التجريد فينزع الصور من الهيولى ويتصورها مفردة على كنههان عندها يبدأ المرء الفنان بتركيب مقومات النجاح على المقطع المتخذ من الطبيعة. وأولى مقومات النجاح هي الثقة بالموضوعات المنتخبة ثم اللحظة التي تكون فيها هذه الموضوعات على يقين من ثبات الرؤية وخصائصها من فعل الحس البصري الذي لا يدرك بذااه مقادير الأشياء وأوضاعها ومسافاتها دون اللحوء الى العقل وقوانينه المساندة للبصر في ادراكه عن طريق علامات ودلائل تقدر المسافات والأوضاع والمقادير لتزنها بمعنى ان الذي يراه المرء الآن ليس من الضروري رؤيته ثانية لأنه يصبح من عداد الماضي وفي نفس الوقت يتغير هو ويصبح أيضاً هو ليس بهو لأنه ينتقل من الماضي الى المستقبل أي الانتقال من حالة الى حالة ثانية تختلف عما هي عليه في الحالة الأولى. والفنان المبدع هو الذي يستطيع أن يحتفظ باللحظة المنتخبة لموضوع هو بعينه مع تصوراته وصور تاتي مختلفة عنه ن يعني ذلك أن ليس ثمة فارق بالشكل المنظور لكن الاختلاف هو بالعبور المرتبط بالانتقال المستمر للموضوع الواحد، أي ان للموضوع المنتخب عديد من الصور تمر مع مرور اللحظات المتتالية فى تستقر على حال واحد لكنها دائماً تتغير طالما ان الزمن لا يقف عند حد.
والسؤال المهم الآن : هل يحق لنا بعد كل ما قدمناه أن نقول ان الطبيعة هي عالم الظواهر المرئي فقط أم أنه يجب أن نسقط من حسابنا كل تعريف يحد من دورها في تأدية واجبه نحو الانسان
والحقيقة انه ما من تعريف بقي واستمر على الدوام الا وكان مقروناً بنجاح الانسان وتطوره . فكماله المنشودج هو هدف يسعى اليه ليزووي به كل عصر ارتضاه ليكون تاجاً لفكره وانتاجه. فالتاريخ يشهد  على ذلك ولا يخجل من ذكره بل يتباهي بصانعيه ويفتخر إذ نجده يقسم ذاته بحقبات ليبرز شخصياتها فخراً بانها صانعة التاريخ الدالة على الانسان الفنان المنتصر.
سميت هذه الحقبات فيما بعد من قبل الآخرين المنظرين بالعصور الذهبية، حين علموا أن الدافع الى ظهورها هو تماس العقل البشري بالتيار المتفجر المشترك ما بين الإنسان والطبيعة. وهذا التيار المهم هو الذي يحدد موقف الانسان من الطبيعة وهو أيضاً الذي يدعونا نحن الى الاهتمام به للتركيز عليه باعتباره المورد الحقيقي للوجود الإنساني.

Wednesday, July 4, 2012

معرض "خطاب الفجر" للفنان عدنان يحيى



هاني الحوراني 


يعد توظيف الخط أو "الحروفية" في اللوحة العربية المعاصرة أحد المقاربات التي لجأ إليها التشكيليون العرب مبكراً في محاولة منهم لصياغة هوية خاصة لأعمالهم، تيميزاً لها عن اللوحة التشكيلية التي نشأت وتطورت كفن أوروبي خالص، قبل أن تنتقل إلى العالم العربي مع أواخر القرن التاسع عشر، ثم لتتطور وتترسخ في القرن العشرين، حيث اكتسبت شرعيتها كأحد فنون المنطقة.
إحتلت الحروفية في غضون ذلك مكانة هامة في أعمال العديد من الفنانين التشكيليين العرب، ولا سيما لدى جيل الستينات منهم، حيث طور كل من هؤلاء مقاربته الخاصة لمعمار لوحته على قاعدة الخط العربي، الذي كان قد نشأ وتطور خلال القرون الماضية، وتحول بذاته إلى فن قائم بذاته، تعددت مدارسه وأنماطه، كما تنوعت استعمالاته، من تدوين القرآن الكريم إلى كتابة المخطوطات إلى تزيين المساجد والعمائر والملابس والأواني والأدوات الخزفية والمعدنية .. إلى كتابة الأمثال والحكم والمواعظ الأخلاقية، مروراً بتخليد السلاطين والحكام.
ورغم براعة العديد من الرواد والفنانين المخضرمين في إدماج الحروفية في نسيج لوحاتهم، إلا أن الجدل لم يتوقف حول ما إذا كان الاتكاء على الحرف العربي كافياً بحد ذاته في بناء هوية مميزة للفن التشكيلي العربي المعاصر، ناهيك عن التساؤل حول مدى التوفيق الذي حالف عشرات، وربما مئات، التشكيليين العرب في توظيف الحروفية ضمن معمار لوحاتهم، حيث وُصفت العديد من هذه المحاولات بالركالة الفنية أو "المتاجرة" بجماليات الخط العربي لاخفاء العيوب التكوينية لأعمال مثل هؤلاء الفنانين، أو لكسب رضى وقبول المشاهدين والمقتنين، من خلال إقحام الحرف العربي، بما له من سحر آسر في ترويج أعمال هذا أو ذاك من الفنانين. وليس سراً أن الأعمال المعتمدة على الحروفية العربية حظيت برواج هائل في السنوات الأخيرة، خاصة بعد ازدهار سوق الأعمال الفنية في بلدان الخليج، مع دخول بعض المؤسسات الغربية المشهورة، مثل "كرستي"، في عملية تنظيم المزادات الفنية إلى أسواق الخليج، علماً بأن العديد من الأعمال الحروفية تعود لفنانين من إيران وتركيا، وبدرجة أقل إلى مصر والدول العربية الأخرى.
مناسبة هذه الاستعادة لمكانة الحروفية في الفن التشكيلي العربي المعاصر هو معرض عدنان يحي الذي ييحتضنه مركز رؤى للفنون، إعتباراً من الخامس من تموز الجاري، تحت عنوان "خطاب الفجر"، والذي ينطوي على إنعطافة فارقة في أعماله التي طالما تميزت بتناولها لقضايا انسانية وسياسية بامتياز، ولا سيما الخاصة بالانسان الفلسطيني ومعاناته، إضافة إلى قضايا الشعوب العربية ومعاناتها من العدوان الاستعماري أو التسلط الداخلي، وهي أعمال تميزت بأسلوبها الذي يجمع ما بين الواقعية والسريالية (أو الفنتازية)، منتقلاً من هذه الأجواء إلى الحروفية.
لكن هذه الانعطافة ليست مجرد تحول في موضوع أعماله (في الواقع يضم المعرض تسعة أعمال تشكل استمرارية للوحاته ونُصبه النحتية ذات المضمون السياسي)، وإنما مثلت قفزة اسلوبية نحو فضاء جديد، قائمة على "حروفية شخصية" كان الفنان عدنان يحيى قد طورها خلال العامين الأخيرين، وباتت تشكل القسم الأكبر من أعمال معرضه الجديد (32 لوحة حروفية).
في "خطاب الفجر" إبتدع عدنان يحيى لوحته الحروفية الخاصة والتي لاتمت بصلة إلى الحروفيات السابقة والمألوفة. فهي حروفية "إخترعها" بنفسه ولنفسه. فهي ليست أثراً أو إقتفاء لأنماط الخط المعروفة. ولوحاته، بهذا المعنى، تنطوي على مزيج من العفوية التي تسم الخط الشخصي لكل واحد منا، ومن التخطيط والاكتشاف والحذاقة الحرفية التي طورها، لوحة بعد أخرى، مستخدماً مواداً وأصباغاً خاصة تسمح له بالحركة الحرة لتشكيل أعماله بأسلوب الكشط على السطح اللزج من المزيج اللوني، والذي تتنوع أطيافه اللونية من لوحة إلى أخرى، وحتى على مستوى سطح اللوحة الواحدة.
إن لوحات عدنان يحيى الجديدة هي أقرب ما تكون إلى "السباحة" في حوض المزيج اللوني، فهو يتحرك بحرفية السباح الماهر الذي يختبر مختلف أنواع العوم على السطح الذي يؤسس له مسبقاً، عارفاً الأثر الذي تحدثه كل ضربة، بل الضربات المتتالية من "مكشاطه" على السطح الكثيف والمرن في آن واحد.
والواقع أن جِدة عدنان يحيى لا تقتصر على "اختراعه" حروفية شخصية، وإنما تتجلى أيضاً في خاماته المستخدمة، وفي الطيف اللوني الواسع للوحاته الذي يتسع لكل المشتقات اللونية المعروفة في الفنون الاسلامية، من الأخضر الزيتوني إلى البني إلى الأصفر التُرابي، مروراً بالبترولي والرمادي والأبيض. فهي ألوان "كريمية" كتيمة وكثيفة تعطي أعماله رصانة المخطوطة، وتعزز قدسية النص بوقار مسطرة ألوانه.
وفضلاً عن ذلك فإن تكوينات لوحاته تستوحي معمار المخطوط وشكل اللوحة الحروفية الكلاسيكية، لكن بعد تحريرها من الزخرفية التقليدية. فهي تحتوي على متون وهوامش، أو على كتلة مركزية وإطار عام، بما يوحي بأن لوحة عدنان يحيى هي، من ناحية اُولى، إستمرار ومتابعة لما سبقها من تطور في مسار لوحة الخط العربي، وهي، من ناحية ثانية، تنطوي على حداثة وتجديد في شكل اللوحة ومبناها. وكأن هاجس عدنان يحيى هو إيجاد المعادلة الصحيحة ما بين الاستمرارية (التراث) والقطع (الحداثة).
إقتبس عدنان يحيى غالبية نصوص أعماله الخطية من القرآن الكريم، فكل لوحة إعتمدت شطراً من آية قرآنية. لكن أسلوب كتابة النص (رسمه) غالباً ما تتخذ شكلاً وتركيباً يستعصي على القراءة الفورية، ويتطلب تأملاً وتفكراً في صصورة النص. والواقع أن هذا النوع من المقاربة الخطية للنصوص الدينية له جذوره في الفنون الاسلامية، وفي الخطوط الكلاسيكية للكتابة العربية. فهي تُعنى بالجمالية أكثر من مما تعنى بالافصاح عن المضمون، أو لكأن جمالية الحرف العربي باتت جزءاً من قدسية النص الديني.
ربما يرى البعض في تحولات عدنان يحيى نحو الحروفية مجازفة من جانب فنان عُرف بأسلوبه المميز بالواقعية السحرية وبموضوعاته التي كاد أن "يتخصص" بها، وهي الموضوعات السياسية، والتي تعكس هموم الناس العاديين والضحايا والمهمشين، أو تندد بالقوى الدولية الغاشمة والمتجبرة والطغاة المحليين. وهما ميزتان ضمنتا لعدنان يحيى مكانة مرموقة في المشهد التشكيلي العربي، خاصة وأن ثورات الربيع العربي عززت الحاجة إلى هذا النوع من الأعمال التي تنشغل بالسياسة والشأن العام دون أن تساوم أو تخل بالشروط الفنية.
لكن معرض "خطاب الفجر" جاء ليؤكد أن مجازفة عدنان يحيى هي في الواقع مقامرة محسوبة، أعد العدة اللازمة لخوض غمارها، وهي تتماهى أيضاً مع المناخ العام الذي يشجع على العودة للروحانية والصوفية، وعلى اللجوء إلى الرموز الدينية في مواجهة 
الظلم والقهر وللدفاع عن الكرامة الانسانية.




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر 




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب لفجر"




الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر






الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب الفجر


الفنان عدنان يحي في معرض"خطاب لفجر"