Thursday, December 29, 2011

الهجانة الخصبة في فن برندا لوي , بقلم د.فريد الزاهي


برندا لوي , مجموعة متحف فرحات


حين ارتحلت براندا لوي (من مواليد 1953) من الصين إلى الولايات المتحدة كانت تعلم علم اليقين أنها ستجد في التلاقح بين تكوينها الآسيوي والحضارة الجديدة مرتعا لطموحاتها الفنية المتعددة. فهذه الفنانة قد أضافت إلى تكوينها الأولي في بلادها في مجالي الخط الصيني (على يد أبيها العلامة والخطاط الشهير لوي سيو شونغ) وفي مجال الرسم تكوينات متعددة لم تنته إلا وقد جاوزت الأربعين. هذا التكوين المستمر على يد أشهر الأساتذة في جامعة دولة كاليفورنيا، ثم بجامعةستاندفورد، كان أيضا تكوينا متعددا ومتجددا، الأمر الذي جعلها لا تكتفي بالتقليد الصيني المتمثل بالرسم بالحبر أو الألوان المائية بل تتجاوزه إلى التشكيل المسندي المعاصر واللعب بالمواد الصباغية، بل إلى المنشآت الفنية installations  من حيث هي علائم جديدة في التعبير التشكيلي المعاصر.
لقد وجدت براندا لوي في أعمال الفنان الأمريكي الشهير مارك طوبي مرتكزا شرعيا لتأسيس نظرتها الفنية وأسلوبها الخاص. فهذا الفنان كان قد درس منذ ثلاثينيات القرن الماضي الخط الصيني والياباني واستوحاه بطرائق تشكيلية مبتكرة في "كتابته البيضاء" جعلت أسلوبه يكون ذا أثر واضح في التعبيرية التجريدية لدى جاكسون بولوك. كما أن أعمال الفنان الأمريكي برايس ماردن في تعاملها الحر والشخصي مع هذا الإرث البصري العالمي قد أكد لها أن الاستيحاء "الاستشراقي" إن كان تجربة غيرية فإن الاستيحاء الشرقي نداء للهوية كي تمتح من ذاتها وتضفي طابعا معاصرة على ممارسة تشكيلية ذات هجانة خصيبة.

برندا لوي , مجموعة متحف فرحات
تظل الفنانة وفية لشغفها بالخط. تستعمله تارة في شكله الأصل باعتباره علائم لغوية تستنطق فيها جسد الحرف من غير تعلق تقاليد "الحروفية" الصينية، ومن غير أن تنصهر في قوانين الكتابة الخطية وفنونها العتيقة. هذا الولع بالخط يتحول لديها إلى ذريعة للممارسة التشكيلية. إنها تفجره تفجيرا، وتجرده تجريدا. والتجريد في اللغة العربية تعرية الجسد مما يغلفه. أي تحويل الجسد إلى أثر. هذا بالضبط ما تبتغيه رندا لوي في عملية مزدوجة: تحويل الخط المقروء إلى وشم بصري مجرد مما يمكن أن يعنيه، وتحويله إلى فضاء تجريدي بالمعنى التشكيلي لهذا المصطلح.
من هنا يكون مدخلنا للعالم الآسر للفنانة. ذلك أن العملية الإبداعية لديها تمر من خلال إعادة تأويل الخط وإعادة تشكيله كي يغدو مادة شكلية وبصرية يمكنها من أن تستعملها على هواها في رسم معالم عالمها الفني. تقول الفنانة في ذلك: "إن عملي يسعى إلى إضاءة ماض كوني عبر الإبداع المتجدد للرموز الدالة على تجربة خصوصية. ففي أعمالي الأولى، قدمت الخط التصويري باعتباره مادة رمزية في لوحاتي. وهذه الخطوط صارت أيقونات فريدة غير صالحة في سياق لساني معين. وقد استعملت التكرار في هذه العملية. وهذا التكرار حطم الكتابة ليدفنها وينبشها في اللوحة".

برندا لوي , مجموعة متحف فرحات

من ثم فإن تحويل الخط في مقروئيته إلى آثار يحرر الخط من المعنى القبلي ويحرر الفنانة من قواعد الخط المتوارثة ويحررها من الانتماء لهوية متحجرة لا تتطور. ففي سلسلة يمكن أن نطلق عليها الحدائق المتخيلة تستعمل اللمسة الخطية البيضاء بأشكال متواشجة ومتراكبة ومتداخلة على خلفية متدرجة الألوان تتراقص حاضنة ما يشبه المركز المخضر الذي يمكن أن يشكل موطن النبتة. هذه الكتابة البيضاء، التي تذكر بشكل واضح بالكتابة البيضاء كما اعتمدها مارك طوبي، تعلن عن امتلاك تعبيري تجريدي للمعطى الكتابي وتتعامل معه بحرية حركية لها نظامها الداخلي.
إن هذا المنحى التعبيري هو الذي نجده في سلسلة أخرى تمعن فيها الفنانة في الإحالة إلى الخط وفي الانزياح عن معطياته في الآن نفسه. يتعلق الأمر باستعمال اللون الأسود (في تلميح للحبر الصيني). إنها لوحات أحادية اللون تتحول فيها العلامات إلى نباتات وأشكال عمودية. وفي ذلك كما في سلسلة أخرى سنتعرض لها لاحقا، تعبر عن تملك عميق للإرث الخطي الصيني وعن رغبة جامحة في تحويله إلى مطية للتعبيرات الأكثر توترا والأكثر تعبيرية. فالسواد هنا يتجاوز دلالة الحبر الصيني ليغدو أفقا وسماء للوحة وللحساسية الجديدة التي تبلورها الفنانة من خلال إعادة ابتكار الطبيعة والمرئي. وهو ابتكار يتم من خلال التركيب بين الأحجام والخلفيات بحيث نجد أنفسنا أمام شاشات تخلق منظورا يرتع فيه بصرنا وكأنه في حديقة مجازية متخيلة رسمت ليلا. واللوحة تغدو مجالا للتركيب أيضا إذ تلصق بها الفنانة مستطيلات بيضاء وحمراء، مليئة وفارغة، خالقة في جسد اللوحة إيقاعا ثنائيا تتمكن من خلاله من المزاوجة بين الفراغات المليئة والامتلاء الفارغ. إنها فلسفة الفراغ تجد هنا مجالا جديدا للتبلور. والفراغ كما نعلم هو راحة المعنى ومنتهاه، وأوج الفكر والإحساس حين يصل من خلال التأمل إلى استبطان المرئي وتحويل فوضاه إلى حركة منتظمة...


برندا لوي , مجموعة متحف فرحات

تجربة براندا لوي ضرب من السياحة الفنية في عوالم المتخيل. إنها تجرب كافة الأحجام والأسندة. ففي أعمال كثيرة تستعمل اللويحات وتصفها في شكل منشآت تشكيلية تتراصف فيها وتتجاور التنويعات على الزهرة أو على القناع أو على موتيفات أخرى مغايرة. هذا الاختيار يجعل من كل معرض لها مسرحة يتحرك فيها بصر المشاهد بين التركيبة المتعددة للويحات واللوحات الهائلة والمنشآت التي تتوسط قاعة العرض. وكأن الفنانة بذلك تخلق سمفونية بصرية تجعل المتلقي يتابع إيقاع تنويعاتها على الموضوع الواحد. ثمة أيضا لدى الفنانة لوحات تعبيرية كلية تتخلى فيها عن دقة أشكالها وتناسجها الذي يشبه الألياف لتنساق وراء اللطخات المكبرة التي تنساب في كل الاتجاهات بحرية إيقاعية أشبه بالوجد الصوفي، خالقة ما يشبه الوجوه والأشكال غير المتحدد.
بيد أن ثمة أعمالا تكاد تنزاح بهذه التجريدية الصارمة إلى نوع من التعبيرية التشخيصية. تلك هي سلسلة الأقنعة/ الرؤوس التي تتحول أحيانا إلى منشأة في اللوحة نفسها، بحيث يغدو الوجه مجالا لاستقبال كافة المواد التي تخترقه وتعيد تشكيله جغرافيته البصرية. إنها وجوه تكاد تفقد هويتها لتتحول إلى مجرد مجال يستقبل دكانة الألوان والأحاسيس العنيفة المتبركنة. وهذه الأعمال ذات الطابع المأساوي النقدي تقابلها أعمال أخرى نرى فيها ما يشبه الجسد الإنساني وقد زجت يه الفنان في لجة المواد المندلقة بحرارة لونية تنبئ عن فكر وقاد ونقاّد. إنها لوحات تنقلنا من الحدائق الخيالة وأجوائها المرحة إلى أجواء وأعماق منشرخة ومتجللة بنظرة مأساوية للعالم.

برندا لوي , مجموعة متحف فرحات

هكذا يجد المتجول في عالم برندا لوي نفسه مشدودا إلى وجهات متعددة. فهي فنانة تنتقل من تجربة لأخرى بعد أن تستنفد فحواها. وتقود نفسها عبر متاهات تجربة تشكيلية تتحول فيها اللوحة أحيانا إلى مجال يغص بالعلامات والرموز والألوان والأشكال بحيث نخالها وصيتها الأخيرة. هذا الطابع الانفجاري الطافح لدى الفنانة يجعلنا ننشد معها إلى مغاور متخيلها الكثيف. وهي كثافة تفصح عن نظرة متعددة ومتجددة للعالم، وعن قدرة على تحويل مفارقة الذات والعالم إلى مجال لتفجير الأحاسيس بكل الوسائط المتوفرة لديها، من حركية تعبيرية وتشخيصية مأساوية وخطية مؤسلبة، جاعلة منا نستجيب لجماليتها الناتئة ولشظاياها الرائقة أحيانا والعنيفة أخرى...

د. فريد الزاهي
ناقد فني. المغرب



Saturday, December 24, 2011

محمد شمس الدين , فتنة الحرف , بقلم الناقد الدكتور فريد الزاهي

محمد شمس الدين


لو قدر لمحمد شمس الدين أن لا يكون فنانا تشكيليا لكان شاعرا أو كاتبا. ذلكم هو الإحساس الذي اعتراني وأنا أضع بصري على مجموعة اللوحات التي تنتمي لمتحف فرحات. إنه إحساس ينبع من الفتنة الآسرة التي تمارسها اللغة الأدبية على الفنان إلى الحد الذي يكرس لها اهتمامه بنوع من العشق الدفين الذي تتآلف فيه كتابات الآخرين مع تموجات اللون والشكل.

في العلاقة التشكيلية التي يقيمها الفنان مع محمود درويش تتبدى هذه الفتنة في شكلها اللانهائي إلى درجة تكاد فيه مقطوعات الشاعر تسيطر على اللوحة وتمنحها نسغها الفني. فالتوازي بين القصيدة المخطوطة بخط الفنان وبين فضاء التماهي البصري التشكيلي يكاد يكون تاما إلى الحد الذي نحس معه أن اللوحة ترزح تحت ثقل القصيدة في حضرة بورتريه محمود درويش الذي يفصل بين الفضاءين. فضاء القصيدة وهو يندرج في التملك الفني يظل عموديا، معاندا لشهوة اللوحة، يكاد يتنصل منها ويكاد يجترح لنفسه فيها نوعا من السلطة الشامخة. تحتضن اللوحة القصيدة بتأطيرها بمساحات تتعامد فيها المقاصد البصرية. تسعى جاهدة لاحتوائها واستبطانها. تدخل معها في لعبة مرآوية أشبه بالتصادي الحي، تنعكس فيها ومعها، تحضنها وتعانقها، جاعلة من أشلائها موطنا لتراصف كلماتها ووقع رجْعها.


محمد شمس الدين 

لا تسعى هذه اللوحات إلى تأويل القصيدة كلية أو تمثلها وإنما إلى إقامة حوار معها يتحول إلى جوار يتطلبها. وكأن الفنان يستحضر القصيدة ليضعها في موضع النفس، وليحتفي بها في عنفوان حضورها لا في غيابها التأويلي. إنه يجعل منها مكونا معلنا للوحته. ثمة لوحة تسترعي الانتباه بانزياحها عن هذا الاختيار الذي يبدو اختيارا غرافيكيا أكثر منه تشكيليا. هذه اللوحة تستدعي القصيدة بشكل شذري، تلاعبها في كينونتها وتستحضرها في رقصتها داخل اللوحة. إنها تتمثل فيها عنفها وعنفوانها وتتملى في تقاطيع جسدها لتتماوج فيها ومعها. رقصة القصيدة هنا إيقاع جديد يستهوي اللوحة فيحرك سكونيتها ويهيج أوار سعيرها الداخلي، فتموج أبيات القصيدة وحروفها وتشتعل بالرغبة في مراقصة المساحة والألوان. هي الألوان نفسها، لكنها هنا تنفجر حركية وتعبيرية وتلامس القصيدة بما يشبه الرغبة الجامحة في احتوائها. هذه اللوحة تأويل بصري يستدعي الحرف والكلمة والبيت الشعري كي يجعل من الاستحضار ذاك لحظة تفاعل تشكيلي بصري لا توجد فيه القصيدة إلا باعتبارها منطلقا لا هدفا. فيتحول الاحتفاء إلى تملُّك مزدوج للقصيدة وللنفَس الشعري، ويتحول محمود درويش إلى لوحة تترجم ما لا تقوله القصيدة إلا لفظا.

شغف محمد شمس الدين بالمكتوب يجعله يغامر في العوالم الحكائية الأخروية لأبي العلاء المعري. ولعمري إنها لتجربة جديرة بالاهتمام، من حيث إن رسالة الغفران فريدة بتناولها لمواضيع متميزة في التراث العربي، ولأنها تشخص اللامشخص وتمرئي اللامرئي. أليس ذلك هو بشكل ما مبتغى الفن كما عبر عن ذلك بول كلي من قرن خلا؟

تستدعي اللوحة بعض المقاطع الحكائية من رسالة الغفران في اللوحة لتمارس عليها ضربا من الانقطاع. تقتطعها اقتطاعا لتجعل منها ذريعة لضرب من الحكي المجرد التشكيلي. فالفنان لا يرغب في أن يكون نصه البصري تشخيصا غرافيكيا illustration للنص الكتابي، وإلا صار التوازي الذي تحدثنا عنه كمواربة من قبل ضربا من الحوار الخارجي. بل يسعى إلى أن يكون النصان أحدهما صدى للآخر في تواجه مباشر يتم تبعا لحركة تتبنى الدائرة باعتبارها، كما يقول ابن عربي، دائرة حضرة الوجود. إنها لعبة الحياة والموت في طابعها الدائري اللانهائي، وكأن اللوحة تجلي كيانها في كيان القول الانبعاثي.

إن تجربة التعامل مع التراث العربي والمتخيل الأخروي الحكائي فيها يفتح تجربة الفنان على ممكنات جديدة مخصبة تمنح لتخييلية الفن منفتحات عمودية وأفقية: عمودية بما تتيحه له من التجوال في المتخيل التراثي العربي قديما وحاضرا، وأفقيا لأنها تخرجه من مدار الحروفية وتهويماتها الهويانية التي تجعل منها في غالب الأحيان تقدم التجربة التشكيلية في زخمها وغناها قربانا لقدسية الحرف. ما يبتغيه محمد شمس الدين هو تمكين التجربة التشكيلية من الانفتاح التناصي على متخيلات مغايرة لخلق تواشجات شخصية تعبر عن اختيارات متعددة. إن همه الوحيد على ما يبدو لي هو الغوص في آخر الفن التشكيلي لخلق تعاضدات جديدة تمكنه من تجديد الفعل التشكيلي. وفي هذه بالضبط تكمن خصوبة تجربته وصعوبتها في الآن نفسه. وتأتي الصعوبة من توكيد قدرة الفنان على الإقناع بالاختيارات الفكرية والجمالية والتقنية للوحة ومدى قدرتها على السير بهذه التعالقات واللقاءات إلى ما يجعلها مقنعة فنية.

ولعل أكثر هذه التجارب إقناعا في رأيي هي تلك التي يستوحي فيها الفنان التجربة السحرية الطلسمية، سواء في ممكناتها التعبيرية أم في غرابتها وعلاقتها بالرسم الرمزي الواضح منه والمستغلق على الأفهام. والطلسمات التي يبدو أن الفنان استقاها من الكتابات المعروفة للسيوطي كالرحمة في الطب والحكمة، وشمس المعارف الكبرى للبوني، والتي لا تزال تتداول في محيطنا الشعبي بهذا القدر أو ذاك من الأمانة، تبلور متخيلا بصريا (الجداول الرسوم) وعزائم تستنهض الجن والشياطين وتتحدث عن الكنوز وتزعم مداواة جل الأمراض الدفينة منها والظاهرة. وليس هذا الانزلاق لدى الفنان من النص الأدبي الشعري والحكائي إلى النص "الرمزي" سوى بحث عن سر مضاعف: سر الكتابة والرسم، وسر توظيفهما في الفضاء التصويري للوحة. هكذا تتبنى اللوحة الإيقاع السريع والتلغرافي للطلسم والعزيمة والتميمة، فتراها تتخلى عن توزيعها العادي للفضاء لتنحو نحو الخفة والمربعات (وهي أساسية في "النص" الطلسمي" أكثر من الدائرة). هنا تغدو الحروف الكتابية أكثر حرية لأنها تستهدي باللامعنى الذي يسكنها، وتصبح اللمسات أكثر شفافية لأنها تنفتح على الغرابة الإشكالية للنص السحري، وتتآلف المساحات مع ثقوب المعنى التي تسم الخطاب السحري.

نحن إذن هنا أمام ثلاث تجارب تكاملية يتعامل معها الفنان باستعمال الورق والكولاج وبالألوان المائية التي تمكنه من بلورة لوحات حوارية مطبوعة بالتراكب وبالمؤالفة بين الطابع التلويني والخفة أو الكثافة البصرية. ويبدو أن محمد شمس الدين في رحلته الثلاثية هذه يسير نحو استكشاف مفاوز جديدة تكون أقرب إلى مقاصده الجمالية، كان آخرها السحر، وقد يكون رابعها النص الصوفي.
ولم لا؟



د. فريد الزاهي

كاتب وناقد فني. المغرب

Sunday, December 11, 2011

جيراردو غوميز : الغرابة غير المحتملة , بقلم الدكتور فريد الزاهي


الفنان جيراردو غوميز

يكفي أن تقع منا العين على لوحة من لوحات الفنان السلفادوري جيرالدو غوميز كي نقع في فتنة مضاعفة: الجاذبية الكبرى التي تمارسها على المتلقي لوحاته والفتنة السديمية التي تحبل بها أعماله. إنه فنان بالغ التميز لأنه يشتغل في برازخ تاريخ الفن من غير أن ينصاع كليا أو جزئيا لمداراته وتحولاته، صانعا لنفسه لغة تشكيلية خاصة، منها وبها وعبرها يعيد ابتكار العالم ويشرح عنفه ويستشرف آفاقه.
ولأن غوميز فنان عصامي فإنه يبدو وكأنه يمتح من رحم الأمومة وعالمه الخاص مجمل أدواته، بعفوية لا نستطيع تقدير مدى عمقها، وبطلاقة لا يمكن إلا أن نندهش لعنفوانها وبقوة تصيب منا مقاتل الرغبة والعشق. وهو لذلك يقدم لنا عالما غريبا آسرا، يضج بالصور والألوان والكائنات، ويضج بالحكايات والصراخ والعنف. إنه عالم بكل معاني الكلمة ينحته الفنان في فورة هلوساته، معيدا تشكيل الوجوه والأجساد، مازجا بين الواقعي والسوريالي والهذيان المسترسل، زاجا بالمتلقي في لُجّة التحولات، بحيث إننا ما إن ندخل اللوحة حتى نعيش في دوامة من الخطابات البصرية واللغوية التي ترمي بنا في أعماق وعي ولاوعي الفنان، بصخبه وثرثرته ومداراته الحلزونية.

مدارس الفن , مجموعة متحف فرحات


وغوميز فنان متمرد، لا على المجتمع ومشكلاته فقط وإنما أصلا عن الفن. إنه متمرد على طريقة مسرحيي الشارع والفنانين المنبوذين، لأنه يعتبر أن المدرسية في الفن مصنوعة للبلهاء والمعتوهين. وهو لا يعبر عن ذلك فقط ضمنا وإنما في لوحة (مجموعة متحف فرحات) يمنحها هذا العنوان، ساخرا من تاريخ الفن ورموزه. فتراه يمنح لفان جوخ صفة فنان الجدران في الشوارع واضعا بين يديه قنينة رشاشة للألوان، وتراه يجسد الموناليزا في شكل امرأة حولاء تشبه بطابعها الكاريكاتوري امرأة هندية تلبس حذاء بكعب عال... إن هذا الطابع الساخر الذي يطبع أعمال غوميز، يبدأ من الفن نفسه باعتباره فنا جميلا، ليرمي به في سلة المهملات بلامبالاة لا رجعة فيها. إنها سخرية مرحة أحيانا حين تستعمل الطابع الكاريكاتوري لهذا المبتغى وتتطرق بطريقة هجائية لمعطيات سياسية عالمية، ومأساوية أحيانا أخرى حين تلامس قضايا كمأساة سجن أبو غريب (لوحة بالعنوان نفسه، مجموعة متحف فرحات)...

أبو غريب , مجموعة متحف فرحات


وهذه الهجانة هي موطن تبلور أسلوب الفنان. إنها هجانة تشكيلية لأنها تمتح مصادرها من رسوم الشارع ومن فن البوب ومن الواقعية لجديدة ومن السوريالية... وهي أيضا هجانة تعبيرية لأنها تجمع في لوحة واحدة ما يمكن أن يعبر عنه فنان آخر في سلسلة من اللوحات. من ثم تغدو اللوحة موطنا للتقاطعات والتشاكلات والتداخلات والتشرنقات والتحولات المدوخة التي تجعل بصر المتلقي ينتقل من موضوع لآخر من غير سابق إعلام ومن تعبير لآخر ومن أسلوب لآخر في اللوحة نفسها. إن هدف غوميز هو أن يدعونا من البدء للغطس في عالمه مثلما قد نغطس في بركة آسنة لا صفاء فيها فنلاقي فيها سقط متاع الطبيعة والبشر وقد أخذت صورا مغايرة. وهو بذلك يجعلنا تدريجيا نستأنس بكائناته الكابوسية التي تمارس التشويه والتحويل على كل ما نملكه في ذاكرتنا البصرية من شخصيات سياسية عالمية ومن رموز بصرية (دوناد، ميكي ماوس...) ومن رموز "حضارية". كل شيء في اللوحة يغدو في خدمة الاحتجاج والتنديد بالحرب وأشكال الاستعباد والتوسع وقهر الشعوب المستضعفة.

جيراردو غوميز ,مجموعة متحف فرحات

ولهذا الغرض لا يتنكف الفنان عن مس رموز كونية كتمثال الحرية. إذ يجسده في وضعية ماجنة مستعرضا ... وجعل بوش في صورة شيطان بقرنين، ودوناد في شكل سفاح... (لوحة الإمبراطورية النشيطة). يلتقط الفنان المتمرد كل شيء ويعبر عنه بطريقة الملصق ويجاور في عالمه بين الكتابة والتصوير. إنه يمزج بين كل المعطيات حتى لتبدو في كثير من الأحيان أشبه بصرخة مجنونة، هو الفنان المعادي للنظام، لذي يجد في الفوضى ضالته الفنية وفي التنديد والاحتجاج طريقه إلى قول ما يمور في بواطنه. لهذا فإن العددي من لوحاته تلاقي الاستهجان من قبل الكثير من الأوساط، لأن الفنان لا يعرف المهادنة ولا يجد نفسه إلا في طريقته المميزة المبنية على المبالغة والتهويل وعلى عدم رسم الحدود الحمراء التي يمكن أن تقف عندها تعبيريته.
ثمة شيء طفولي يفتن المتلقي في هذه اللوحات: إنها تلوينيتها التي تستقيها من عدم تفضيل لون على آخر بحيث تصير اللوحة لديه أشبه ببانوراما لونية لا مجال فيها إلا لحضور الألوان المباشرة ولغياب التلاوين. والفنان بذلك يؤكد الطابع الخام لفنه والذي يتشارك فيه مع أصحاب هذا الاتجاه ومع البوب آرت والفن المتوحش. هذا الطابع الطفولي يبدو مفارقا كل المفارقة للطابع العنيف أحيانا الذي يجعل غوميز لا يتوانى في التركيب والتهجين لقول ما يمور في دواخله. فهو يلصق مثلا شارة النازية ووضعيتها لقادرة سياسيين قد لا تصل بنا الجرأة السياسية العقلانية لأن نتهمهم بذلك.



هذه المبالغة هي ضرب من التفخيم، وهي الخصيصة التي تتميز بها أعمال هذا الفنان المشاغب شكلا ومضمونا بحيث تنطبع أعماله الأخيرة بنزوع إلى الكشف لا يتورع فيها عن الدفع بأسلوبه إلى حدوده التعبيرية القصوى، كالجمجمة التي تخرج منها الكائنات الهلامية والجسم المسلوخ الذي يحتل وسط اللوحة وتتبدى منه العضلات في عرائها القاهر... وكأننا بالفنان، وهو يتابع تطوير أسلوبه المركب هذا، يدعونا إلى أن نتبنى معه المنظور التالي: لا حقيقة فنية وتعبيرية إلا في مباشرتها الآسرة، ولا مباشرة إلا في تنويع المنظور وتخييل الموضوع، ولا موضوع إلا منظورا إليه من جميع جوانبه.
لهذا فهذه الأعمال وهي تتناول موضوعات متعددة في لوحة واحدة تقوم بالربط بينها بما يشبه الحبل السري، أي من خلال تركيبات متواترة ومتغيرة، بحيث يتجاور الموضوع السياسي العالمي مع التعبير الشخصي الذاتي مع كل ما يمور في ذات الفنان.
يستوحي غوميز في هذا الأسلوب طرائق فن الجداريات كما تبلورت في المكسيك وغيرها منذ القرن الماضي وفي ذلك الارتباط الخصب والحي بين الفن والتعبير السياسي. إنه يكمل سلالة قلة من الفنانين العالم ثالثيين الذين لم تستهوهم السوق ورهافة الفنون الجميلة فانساقوا وراء سليقتهم الفنية ليذكّرونا بأن الفن ليس فقط متعة جمالية وإنما موطنا أيضا للرغبة السياسية الجامحة وللتمرد. فاللوحة أيضا ميدان للاحتجاج ضد الظلم في مختلف مظاهره، وضد الحرب وأهوالها، والاضطهاد وكوارثه، وهي تشرع أبوابها لهذه الأحاسيس الجماعية كي تجد فيها موطنا خصوصيا ينبض بالحيوية وبالمتعة الهادفة.

د. فريد الزاهي
كاتب وناقد فني. المغرب
  

Saturday, December 3, 2011

مروان طحطح.. عين ترى الفرح وتفرح لرؤيته

مروان طحطح.. عين ترى الفرح وتفرح لرؤيته
 أورنيللا عنتر02/12/2011

مروان طحطح

على الرغم من أن إشارة سير تتيح الاتجاهين قد تبدو لك غير مفيدة، لكنك مع ذلك، تقف أمامها حائرا. إشارة سير تتيح لك الاتجاهين، اتجاه مجهول لا تحتضنه الصورة، وآخر لا يحمل إلاّ آثار حرب مضت. ومع ذلك، كلّ من الاتجاهين متاح. لكن الخيارات ليست دائما متاحة، كما في هذه الإشارة. لكي تهب وجهها للبحر، تضطر امرأة محجبّة لأن تدير ظهرها لكلّ ما لا يلتقي مع زرقة البحر. لكي يقف بشموخه أمام وجه من بيروت، يدير تمثال ريّاض الصلح ظهره لوجه آخر من المدينة. قلّما تسمح لنا الحياة أن نأخذ نحن فقط. لنا حصّتنا، ولها حصّتها منّا.سجّادة حمراء هي سجّادة حمراء، هذا كلّ ما في الأمر. أما سجّادة حمراء وقدمان صغيرتان أنهكهما السير حافيتين في أحياء المنطقة، فلا يمكن إلا أن تكون سجّادة صلاة. لكنّها، في مشهد آخر، قد تصلح لأن تكون سجّادة في غرفة الجلوس، ترافقها رجلان صغيرتان لصبيّ يشاهد الرسوم المتحرّكة. وفي كل مشهد شيء من القدسيّة.سلسلة فضيّة حول عنق امرأة. حذاء أسود رفيع الكعب وقدمان عاريتان. بعض الحميميّة لا تفضحها إلا الأجزاء. الأجزاء فقط.أحد لم يسألها رأيها.

مروان طحطح


 لكنها، في تلك اللحظة، لم تمانع. النحّات الذي قرر تعرية منحوتته والكشف عن نهديها لم يفكّر أنها، خارج محترفه، ربما تشعر بالخجل. على درج مار نقولا في الجميزة، رفعت المنحوتة يدها وسترت بعض عريها.الإشارة والسجادة والفتاة العارية وغيرها الكثير تفاصيل التقطتها عدسة المصور الصحافي مروان طحطح في أنحاء مختلفة من المدينة، لينقلها لاحقا إلى معرض "Out of Focus"، الذي يستمر لغاية السابع من كانون الأول الجاري، في مبنى "كونكورد" في بيروت.بدأ مروان طحطح عمله كمصوّر صحافي في جرائد ومجلّات لبنانية عدة، ليلتحق بالزميلة "الأخبار" عام 2006، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم. شارك مروان في العديد من المعارض الجماعية، لكن "Out of Focus" هو معرضه الفرديّ الأول. عندما خطرت فكرة المعرض على باله، كان من المفترض أن يلتقط بعدسته تفاصيل حياة يوميّة. لكن الفكرة توسعت شيئا فشيئا لتحتوي صوره على "شطحات"، كما يسمّيها هو.بحسب مروان، لا يتبنّى معرضه موضوعا معيّنا بقدر ما هو مجموعة قصص: "كل ثلاث صور أو أربعة هنّي مع بعضهم قصة". أما التسمية، Out of Focus فاختارها لأن معرضه يخرج عمّا هو مألوف بالنسبة له، أي بالنسبة لمروان طحطح المصوّر الصحافي. برأيه، عين المصوّر الصحافي قادرة أيضا على التقاط الفن أينما وجد وكيفما وجد. هذه العين لا تلتقط الحرب والمآسي فقط، بل هي أيضا عين ترى الفرح وتفرح لرؤيته. ويشرح: "بكون عم صوّر تظاهرة بيمرق شي صغير، ما خصّو بالمظاهرة، بلتقطه".أما عن مكان العرض، في الطابق السابع عشر في مبنى الكونكورد، فيشرح مروان أنه اختاره لوقوعه في قلب بيروت، في مكان "حقيقيّ": يطّل على الباطون الذي غالبا ما يتصف بالبشاعة، ويطّل على البحر أيضاً. و"بين البحر والباطون، أنا بشوف الشي الحلو والشي الحقيقي".   
http://shabab.assafir.com/Article.aspx?ArticleId=5379&ref=1