Tuesday, February 26, 2013

دايفد تيشاوت: بين التجريب والإتقان



" لقد قدمت الحركة الحديثة في الفن مفتاحا قويا للعالم بعد إنتهاء الحرب وإستمرار التهديدات بالحرب النووية, إن الإضطراب والغموض اللذان يكمنان في التكعيبية والتجريدية كما في السريالية قد نجحوا بتذكيري بطفولتي في شنغاي والزمن الجميل "
J.G.Ballard الكاتب الإنكليزي جيمس كراهام بالارد  

الفنان دايفيد تيشاوت أمام أحد أعماله المقتناة من قبل مجموعة متحف فرحات
David Teachout infront of one of his artworks 

لا يمكن اختصار تجربة الفنان الأميركي دايفيد تيشاوت David Teachout التجريدية بعجالة عابرة، فهذا الفنان الذي أنهى خدمته كطيار في الجيش الأميركي سنة 1950 والذي كانت أهم مهامه التدريبية إتقان إلقاء القنابل الذرية من الطائرات الحربية ,عاد الى وطنه الأم, تحديداً الى كارولاينا الشمالية وذلك لينهي دراسته التي نال فيها شهادة الباكالوريوس في هندسة المناظر الطبيعية والتي إكتشف من خلالها حبه وإدراكه للشغف الفني النائم منذ أيام الطفولة. وإثر هذا الإكتشاف وخلال مزاولته مهنة التدريس قرر تيشاوت التخلي عن عمله ومهنته في هندسة الديكور للإنتقال الى مسقط رأسه في كاليفورنيا للتفرغ للفن والفن فقط 

دايفيد تيشاوت , مجموعة السقوط , من مجموعة متحف فرحات 

 Dripping تبلورت في أوائل السبعينات أولى المراحل الفنية  لدايفيد تيشاوت عبر تقنية «السّكب» إحد أنواع التجريدية التعبيرية كطريقة تهدف إلى تجسيد حركة الفنّان في إطار يتميّز ببعد علائقي متناغم بين جسد الفنان والفضاء: سيرورة تجسّد نبضات الفنّان أثناء حركته في علاقته بالأثر الذّي يحتوي الشّكل 
أنّه «لا يحدث في اللوحة صورة وإنما حركة»، قد يجد البعض في لوحاته مجرد «شخبطة» بالألوان، في مقابل ممكن أن تنشأ دراسات وأبحاث تتحدث عن فلسفة اللون فيها والحركة والتقنية الأسطورية. فهو كان يهدف إلى التعبير الفني بعيداً عن سيطرة الوعي. كان يحدث عن طريق تحريك الفرشاة المحملة بالألوان، حركات عضلية عشوائية على سطح اللوحة فتنتج شخبطة أو بقعاً تعبر عن حالات انفعالية، ولا يتوصل إلى تحليلها إلا الخبراء في علم النفس والمتعمقون في مدارس الفن المعاصر.

دايفيد تيشاوت , من مجموعة السقوط 1972, من مجموعة متحف فرحات 

لقد دخل تيشاوت في تجربة حركية مطلقة باضطراباتها ودوخاتها وإشراقات ألوانها المشدودة إلى قوة الحركة. إنها لحظة وجْد ينبثق فيها كل شيء في حلم يقظة، في إيقاع وارتجال يذكر بحركية موسيقى الجاز، خصوصاً أن الجسد يقوي من دوره كوسيط بين الفنون...
لم تأت هذه اللوحات التجريدية من فراغ، بل هي انعكاس لزمنها، فعندما رسمها تيشاوت، كانت أميركا في لا تزال تعاني آثار الحرب العالمية الثانية ونتائجها وإرهاصات «الحرب الباردة». هذه من بين العوامل التي دفعت بولوك وأقرانه من الفنانين إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف، وبدا أن الرسم التجريدي أحد أشكال المواقف الراديكالية من الواقع، وكان رواده يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادراً على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية .كما نلاحظ لدى الفنان عملية السكب لديه خاصة في مجموعته التي أسماها " مجموعة السقوط"تكون الحركة دائما من الأعلى إلى الأسفل, وهذا ما يذكرنا بمهامه العسكرية التي كرهها خلال صباه,  وهي التمرين على إلقاء القنبلة الذرية فربما هذه المرحلة كانت مرحلة علاجية ل"اللاوعي"  عنده ليحل اللون والفرح واللانهائية لسقوط الألوان وتلاقيها مكان القتل والإرهاب .

دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات

في أوائل الثمانينات من القرن الماضي بدأ الفنان بمرحلة جديدة  وهي الأكثر وعياً ودراسةً ليكمل طريق الغنائية اللونية لكن هذه المرة عبر صياغة هندسية وتقنية عالية الجودة, فمن نافذته إتخذت شكل المستطيلات والمربعات عذرا للغوص في أزرق السماء وما يشاغله من عناصر هندسية تسبح في الفضاء  والتي تتكون عبر صياغات تأليفية مليئة بالتنويع في السطوح في مجموعتة التي سماها "سانتا كروز" والتي تحمل  اسم مدينته في كاليفورنيا 
يتكون التجريد الهندسي Geometric Abstraction للفنان دايفيد تيشاوت عبر عمليات المحو وتبديل العناصر من خلال اعادة الرسم في طبقات مختلفة(Pentimenti-Erasures-Emendations) ومن ثم تحسينها مرة عن مرة, فالعديد من لوحاته تحتوي ذات العناصر : سقالة من الخطوط والأشرطة تتداخل في الفضاء ضمن ألوان تحجب بعضها البعض عبر الطبقات , الواضح والبديهي هنا تأثير فن العمارة الجميل وذلك يظهر بالبنية التأليفية والتصميم العام القوي, ولكن ما يناقض الجمود يظهر من خلال النسيج  اللوني الحساس والمليئ  بالعبث ليمزج القوة بالحساسية النفسية الجذابة, ليكشف بدوره عن صوفية كامنة لدى الفنان تذكرنا بصوفية الزخارف التجريدية الهندسية في الفن الإسلامي.

دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات

إن دايفيد تيشاوت المولود عام 1933 في كاليفورنيا لم يكرس تجربته الفنية للإستفادة المادية أو التجارية, فهو لم يخض الطرق التجارية طوال حياته الا انه كرس نفسه لتطوير قدراته الفنية داخل الإستديو وبعيدا عن تدفق الأموال الذي رافق معاصريه من الفنانين الشهيرين أمثال بول جنكنزPaul Jenkins ,ريتشارد كليفورد ديبانكورن  Richard Clifford Diebenkorn ,جاسبر جونز Jasper Johns وغيرهم من الذين عرض معهم في أهم الغاليريات في أميركا كغاليري كوركوران Corcoran Gallery of Art في العاصمة واشنطن , كما أنه شارك بالعديد من المعارض الفنية في أميركا من سنة 1965 وحتى سنة 1989 ,ومن ثم ليكتشفه متحف فرحات في الثمانينات من عمره ويقتني العشرات من أعماله المهمة لتضاف الى مجموعة الفن الغربي .

للمزيد من الأعمال الفنية  إضغط على الرابط التالي 

دايفيد تيشاوت , من مجموعة سانتا كروز , مقتنيات متحف فرحات


Monday, February 18, 2013

"النبطية، ذاكرة المكان والعمران" كتاب جديد للباحث والمؤرخ علي مزرعاني



   بين بيوت النبطيّة وساحاتها 
 محسن أ. يمّين  
 بصدور كتابه الجديد "النبطية، ذاكرة المكان والعمران"، في 192 صفحة من الحجم الموسوعي، مطبوعاً في مطابع "شمالي أند شمالي"، يواصل علي حسين المزرعاني خدمته المعرفية لمنطقته، مدينة وقضاء. فمن أصل خمسة كتب اقترنت بتوقيعه حتى الآن، ثمة عنوان واحد عن الجنوب ككّل (فهرست لبنان الجنوبي وجبل عامل، 2012)، وما عدا ذلك فمعقود للنبطية.
 الكتاب الممّهد له بكلمة للدكتور أحمد كحيل، رئيس بلدية النبطية، وبمقدّمة للمهندس رهيف فيّاض، رئيس هيئة المعماريين العرب سابقاً (2005-2009)، يندرج في سياق الكتب التي تعتمد الصور، بلوغاً لهدفها، أكثر من اعتمادها على النّص المكتفي بشروحات وإيضاحات مؤطّرة للصور. ومادّته مجدولة ممّا تراكم في أدراج مؤلّفه منذ شروعه في التصوير، وجمع الصور، أو عائدة لمحفوظات عامّة، وخاصة. ولا تتوكّأ على صور المحترفين إلاّ وهي تستند لصور استوديو "بونفيس" لنشر صور النبطية، زحلة ودير القمر، في مفتتح الألبوم، أو على صورة بانورامية للمصّور ماهر غندور أخذها للنبطية، عام 1951، مفلوشة على صفحات أربعٍ بدلاً من اثنتين، مطوية على طريقة "الأكورديون"، كما على بانوراميات أخرى أحدث عهداً، بقصد تتبّع السيرورة العمرانية للمدينة، ورصد اتّجاهات تمدّدها. كل ذلك دون أن تُغفل الصور الجوّية العديدة (وزارة الدفاع اللبناني، وسواها من المصادر). كتاب المزرعاني يحمل في طيّاته صور البيوت التراثيّة المتفاوتة عتقاً، كأطعنها سنّاً: منزل آل فخر الدين، وبيت علي أمين عابدين الصبّاغ، وعلّية نجيب جواد جابر، ودار محسن شميساني، إلى تلك التي تسبق بقليل زحف الباطون، بأنيابه السوداء على هويّتنا المعماريّة المتداخلة فيها عناصر شتّى: موروثة، أو مقتبسة، أو كولونيالية (دار الدكتور بهجت الميرزا، طبيب المدينة الأوّل). وتمشي الصور على ورق الكتاب من حي السراي، إلى حي الميدان، إلى حي البياض، وحارة المسيحيين، متجاورةً على الصفحات، بأكثر ممّا تتجاور على أرض الواقع المرصود، مرفقة بصور أصحابها ومشفوعة بما صمد من وثائق ثبوتيّة ومن مخّلفات الماضي. وتطلّ الساحات، بما تقلّب عليها من أحوال، والسراي والجامع القديم وفندق "زهرة الجنوب" وطلائع موديلات السيّارات وسينما "الريفولي" واستوديو "أيوب" للتصوير. وتستعاد التظاهرات والمآتم ومظاهر الحياة اليومية المجمّدة في اللقطات. سيرة للحجر كتاب المزرعاني، وللّذين كانوا وراء إعلاء مداميك الحجر، للمندلون والليوان واليوك والكواير وفتحات التهوئة والأدراج ولقناطر الداخل والخارج، للشبابيك الواسعة، والسقوف العالية والخشب المدهون بالألوان الصارخة أو الحائلة.
 يلتفّ مؤلفه، من خلاله، على الذاكرة المعمارية، التفاف المتسلّقات وأشجار التين على الحيطان التي خرمش عليها الزمن بأظافره. يسجّل بواسطتها اعتراضه على السائد المعماري، معلناً من الغلاف الكرتوني المقوّى، انحيازه إلى الطرّاز الذي كان أسلافنا يتّبعونه ويراعونه، وهم يبنون. يتأسّف على ما تداعى، يفرح لما رُمّم، ويتدارك ما يُخاف عليه. ويصفع بالتفاصيل الحجرية البهيّة وجه الطراز الشائع حالياً، فيما تقارن العين بين الغابر والحاضر، متمنّياً في سطوره وبين سطوره، لو يحدث ما يوقف هذا التناسل اليوميّ الخرافيّ للبشاعة السادّة لمجالات الرؤية في المدن، و الملتهمة لاخضرار الأرياف. سيرة عرف المزرعاني كيف يفيض بسردها  


يقظان التقي - 03-02-
2013 النبطية ذاكرة المكان والعمران" عنوان كتاب أنيق، ألبوم مصوّر وموثق إعداداً وبحثاً لعلي حسين مزرعاني لمدرسة وأرشيف مصور عن مدينة النبطية، اثارها وذكرياتها وذاكرتها العربية وماضيها الجميل في حركة أسمائها وأعلامها. مدينة كتب عنها الرحالة إدوار روبنسون الذي زارها العام 1852 ونسج حولها لوحة في كتابه "يوميات في لبنان" باعتبارها عروس الجنوب، كما زحلة عروس البقاع.
 "كتب روبنسون "وصلنا النبطية وهي قرية كبيرة في وادٍ فسيح خصب، أو حوض تنزح مياهه للشمال الغربي إلى الزهراني، وفي النبطية سوق تجاري يقام معرض فيه كل اثنين وفي القرية بيتان مؤلفان من دورين، أحدهما لشيخ اقليم بلاد الشقيف والآخر لفلاح فقير". ما يعني ان النبطية كما المدن اللبنانية أو القرى حينها كانت مؤلفة من بيوت ترابية قليلة جداً أو بيوت كثيرة، تحت سقف ترابي واحد ومن طابق واحد. وان سوق الاثنين مستمر فيها منذ مئة وستين عاماً.
صورة النبطية لا تختلف عن صورة زحلة أو راشيا أو راشيا أو دير القمر أو مرجعيون أو حاصبيا أو غيرها من المدن اللبنانية. وفي مقارنة مع صورة لبلدة دير القمر بعدسة بونفيس مؤرخة العام 1880، تبدو دير القمر شبه مدينة، بيوتها المبنية بمجملها حجري الجدران ترابي الاسقف ومن طابق واحد أيضاً وهي صورة أيضاً لمدينة راشيا (أرشيف الأنوار). نسيج معماري لبناني متشابه، يرتبط بالتراب والجذور في نموذج انتشر في القرن الحادي عشر ميلادي وتوسعت الهندسة المعمارية في القرن الثامن عشر فظهرت القناطر الحجرية الداخلية وصارت الأبواب أكثر علواً والمنازل أكثر مرونة في تلبية حاجات أبنائها وساكينها، صورة أخرى عن عمارة جبل لبنان أيام فخر الدين وهي اثبات تاريخي وتجسيد حي لهذه النماذج في المنازل اللبنانية الممتدة من أقصى لبنان إلى أقصاه من الجنوب إلى الجبل والبقاع وإلى بلاد جبيل من بلدات جبرايل وحصرايل وقرية عبود المجاورة لبلدة قرطبا أو قرى في شمال البترون أو قرى أخرى لمن يتصفح كتاب جاك ليجيه بلير "المسكن في لبنان" (دار غوتنير) من باريس العام 2000. ينقل الباحث عن مجلة العرفان (المجلد 25 الجزء الرابع، تشرين الأول 1934) بقلم الشيخ أحمد عارف الزين تحت عنوان "ذكريات من الصيف" كيف تقدمت النبطية في عمرانها من دارين وسراي الحكومة إلى بيوت قرميدية بنيت على أجمل شكل هندسي. وقد بلغ عدد سكانها خمسة آلاف نسمة.
الآن نحو 60 ألف نسمة أو أكثر. وقد تغير دور النبطية وكل التعبيرات المدينية والمعمارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. صور كثيرة بقيت وأخرى تغيرت في كل المستويات في تمدد بلا حدود ولا ضوابط، حدود ابتلعت الوادي الجميل الزراعي والقرية الكبيرة والاقواس الحجرية، والزواريب والحكايا المحفورة وأماكن الذاكرة الجماعية الرئيسية.. وحده سوق النبطية بقي الحدث التاريخي المذهل والإنجاز الثقافي التراثي بامتياز.
 عناصر كثيرة يرصدها الكتاب كذاكرة جماعية لناس المدينة إلى أهم أحداثها التاريخية ولا سيما حدث تراثي تاريخي عاشوراء عبر مصاف قرنٍ ونصف من الزمن. لكن اختلفت البيئة. ما عادت النبطية تلك القرية البسيطة الشاعرية في الوادي وحولها الهضاب وذلك النهر المشبع بالحضور المتناغم والعذب والموصول بذاكرة عابرة للحدود وأسماء وأسماء وأسماء، ومجال مفتوح للحراك الوطني القومي التعددي والمتنوع لمختلف التيارات والأفكار السياسية العارمة والمدينة الحنونة على كل المحيط.
في العام 1973، وقفت النبطية وقفة جامعة في تظاهرة عارمة تأكيداً لمطالب مزارعي التبغ، ومن قيام دولة إسرائيل المحتلة دفعت النبطية أثمان وحشية الاعتداءات الإسرائيلية إلى الآن، وفي امتداد مدينة مقاومة طيلة قرن كامل. ما زالت سيرة النبطية المقاومة على حالها. لكنها ما عادت عاصمة الملل والجماعات على تعدديتها ونيابة عن كل الجوار ومركزاً لتجمع العشائر العاملية التي هاجرت كما أيام عهود الاقطاع التي توالت الحكم فترة العهد العثماني.
 النبطية التي جعل منها الملك الظاهر نيابة كدمشق والنبطية الناحية التي يرأسها رضا الصلح.. والظاهر يقول الشيخ أحمد عارف الزين "ان النبطية ليست من قرى جبل عامل القديمة وربما لا يتجاوز عهد بنائها القرن التاسع الهجري". للأسف اكتست جمهورية "الباطون" (الاسمنت معظم معالم المدينة وبدل الوجه الايجابي تحول الوجه العمراني إلى وجه "عابس" مع زوال المساحات الخضراء، ومع زوال بيوت تراثية وأدبية وتاريخية لأعلامها الكبار وعائلاتها الكبيرة كمنازل العظماء والمشايخ سليمان ظاهر وأحمد رضا وعبد الحسين صادق والمخترع حسن كامل الصبّاح، ودارة آل الفضل والسراي الحكومية العثمانية ودارة أم رمزي حريبي في حي البياض التي أزيلت العام 2007 وفي غياب ثقافي لم يهتم بالفنون التراثية والآثار المعمارية العثمانية، والشرقية والايطالية. ما عكس تداخل الهويات والاضافات الجميلة ونسيج حياة اجتماعية تعددية كنافذة في منزل وحيد في حارة المسيحيين وأخرى في حي الميدان. كتاب جميل يحاول ان يرمم ذاكرة أو اثر وآخر من ذاكرة تحفر عميقاً في الوجدان الوطني والإنساني الحضاري العام. مادة مصورة تحمل إدراك بواسطة الصورة الفوتوغرافية ويتجلى منه المكان، النبطية بدلالاتها التاريخية ويتجلى المكان والتاريخ ومعها الظواهر المعمارية والاجتماعية والبنيوية ليس فقط كمساحة جغرافية بل إظهار لصورة ومساءلة والتقاط أصداء التاريخ وسبر المعاني ورمزيتها مهديين لعلي مزرعاني في التقاط وتمثيل التحولات المرئية للمدينة وظواهرها الثقافية والاجتماعية. والأهم التأمل في تلك الهندسة الجذّابة إلى زمن جميل بشحنة جمالية معبّرة عن قيم القرية اللبنانية القديمة الجميلة.

Saturday, February 2, 2013

قراءة في أعمال رؤوف رفاعي بقلم د. شاكر لعيبي

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات
Raouf Rifai , Farhat Art Museum Collection



ربما لا يقبل العمل البلاستيكيّ لرؤوف رفاعي  التصنيف الجاهز، فهو يستمتع بالرسم على الحوامل التقليدية كما  ينهمك بالتنصيبات المفومية، وهو يتقلب سعيداً بين التشخيص والتجريد. رغم أنه يبدو أكثر سعادة في أعماله التشخيصية، مثل مجموعته الدراويش. يمكن ملاحظة أن أعماله التجريدية تبقى تحتفظ بالتكوين نفسه والتوزيع المشابه للكتل والأشكال والهيئات التشخيصية بحيث يبدو وكأنه قام بتلخيصٍ وتنقيةٍ لها لكي لا تحتفظ إلا بالجوهريّ التشكيليّ.
أعماله التشخيصية الحرّة يمكن أن تندرج تحت المفهوم العميق للطرفة anecdote، ويمكن قراءتها عبر مساءلة هذا المفهوم، بالعودة إلى الأصل اليوناني للمفردة. وهي تتكون من بادئة نافية (α) وكلمة (εχδοτος). إنها تعني إذنْ غير معروف، غير منشور بالأحرى. لكنها تُستخدم بمعنى خصوصية تاريخية أو سمة أخلاقية أو سلوكية مميَّزة، وبصفتها تفصيلاً ثانوياً لفعل من الأفعال، وبمعنى قصة سريعة مرويّة بروح الطرافة، تُحفظ بسهولة لأنها تخاطب المشاعر والفكاهة والرعب، لذا سهلة النقل شفاهياً. كأننا بهذه التعريف للطرفة المستل من قاموس مشهور نتحدث حرفياً عن غالبية أعمال رؤوف رفاعي.
في الفكر تذهب الطرفة، إذا لم تُستخدم بمعنى الأمر المبتذل العاديّ، إلى معنى المفارَقة paradoxe التي تشعّ بالدلالات. وبهذا المعنى نستخدمها في توصيف أعمال رفاعي. وعلينا في هذا السياق التفريق بين استخدامنا الحالي (للطرفة) ومعنى (الطرافة)المألوف.

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات
Raouf Rifai , Farhat Art Museum Collection


إن أعمال "الدرويش" نوع من طُرُفات متكرّرة تودّ التلميح عبر مفارَقة ما، إلى التباسٍ داخليّ أشبه بالطرافة. ففي حين أن الفكرة المألوفة عن "الدرويش" تمنحه هالة صوفية وحالة انجذاب رفيع، وتثبّت له صورة لا مزاح تقريباً فيها، وفي الاستخدام الشعبي توطّن مفاهيم الطيبة التي تصل حدّ السذاجة، فإن الفنان يفكّك هذه الصورة، يبعثرها، يركّز على تفاصيل (مريبة) فيها أو دالة أو تتسم بالمبالَغة، يضخّمها، ويشدّد على ملامح بعينها، وأحياناً يسخر من بعضها.
يعزز هذا المنحى استخدامه للألوان التي تصير، في مرات عديدة، صارخة، صريحة، بل وحشية إذا أمكن القول، وبملامح غرافيكية (رسم Dessin) ذات خط خارجيّ قويّ، وأسلوب طفوليّ أو بملامح فطرية متعمّدة. بهذا تمتزج في أذهان المتلقي المرجعبات وتختلط، سواءً من الناحية التلوينية أو الأسلوبية، وتنصهر كلها في إرادةٍ شخصية بأن يُنشأ الفنان عالماً غرائيبياً، حتى لا نقول غريباً، مكوَّناً من كائنات تشترك بنزوعها الباطنيّ (الأيزوتيريكي ésotérique) المخادِع، لكأنها استعراض خارجيّ لأمر جوانيّ لا يُستعرض للملأ في العادة.

من هنا يمكن أن تكون هذه الطرفة نوعاً من نقد ثقافي ملتزم بالشرط التشكيليّ، ومُنجَز وفق دفقٍ عاطفيّ وشعوريّ، وسرعة في الإنجاز بالأكريليك، وذلك من أجل الاحتفاظ بحرارة الاندفاعة العاطفية الأولى. لكن هذا الأمر يمكن أن يكون أكثر توصيفاً للوحات الدرويش التي تنبني على عنصر واحد أو عنصرين اثنين، وتتميز بالتتقشف التكوينيّ والكروماتيكيّ، وهي كلها تندرج في إطار غير المُنجَزinachevé  عمداً. وهنا مفهوم آخر يمكن أن يكون مفتاحاً آخر لقراءة أعمال رفاعي. نعلم أن غير المكتمْل (أو غير المُنجَز) قد صار منذ أعمال الانطباعي إدغار دوغا أواخر القرن التاسع عشر، ضرباً من قاعدة لجماليات الفن الحديث ثم الفنون المعاصرة. ولعل عبارة جان مارسيل Jean Marcel: "يكمن الجَّمال في كل ما هو غير محدّد وفي غير المُعرَّف، وهنا يقع السبب بأن الأطفال الغامضون دوماً ، هم دائما جميلون. يقع الجَّمال في كل ما هو غير مكتمِل"[1]. الكثير من أعمال رفاعي، خاصة الدرويش، تقع في غير المكتمِل من المناحي كلها، ولأسباب تتعلق بمشروعه ومفاهيم مشروعه التي تقتضي الاختصار والسرعة واقتناص الانطباع الأولي وتمثيل أكبر قدر من أنماط الدراويش.

رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات
Raouf Rifai , Farhat Art Museum Collection

إن لوحات الدراويش التي تتشكل من أكثر من عنصر واحد أو اثنين تبدو، فلأقل، أكثر اكتمالاً، بمعنى أنها تتمسك ببنية بلاستيكية بديهية، غير منفلِتة، وتكوين أكثر تدقيقاً، وتحتفظ بتوازنات داخلية تجعل من الفضاء (لأننا لا نفضّل مفردة الفراغ الفارغة) مناسبة لأن يحضر بصفته عنصراً بلاستيكيا جوهرياً، كما أنها مشغولة بقدر أقلّ من الاندفاع، بحيث أنها التمّتْ على نفسها، وخياراتها، والتبستْ طُرُفاتها حتى صارت تتأرجح بين المرارة والقسوة والطرافة السوداء، بينما وقع الاشتغال على ألوانها بتمعُّن ضمن تقنيات شخصية وحسّاسية مشذّبة إلى حد بعيد، خاصة  تلك التي يطغى فيها اللون الأحمر والألوان الحارة عموماً.

إن تنصيبات رفاعي، لا تبدو للوهلة الأولى وهي تمشي بالتوازي مع عمله التصويريّ. ينطلق الفن المفاهيميّ كما نعلم من الفكرة ويفضّلها على التنفيذ، أو يجعل لها الأسبقية. علينا لهذا السبب التفتيش عما يُراد قوله من مفاهيم مبثوثة في تنصيبات رفاعي. ظاهرياً تبدو هذه الأخيرة  مفصولة عن روح الطرفة التي تلمسناها بوضوح في أعمال الأكلريايك، عبر مفردات لا تبدو من الطينة نفسها، لا الإحالات ولا المناخات ذاتها: الهيكل العظمي والدراجات الهوائية أو النارية والبرورتريه النحتي الواقعيّ والإطار المطاطيّ. هذه المفردات أو ما يشابهها لا تظهر إلا بصفتها تعبيراً عن الزائل والمؤقّت، ولعلّ الأقرب منها لروح الطرفة الموصوفة هي أعماله عن (المومياء) و(رأس الدرويش) المستلقي وحده مرةّ ومع كامل جسده مرةّ أخرى. هنا محاولة لجعل المفارَقات تتصاعد، لكي تمسّ وتصل إلى تخوم الميتافيزيقيا: مفهوم الموت، ومعنى الوجود الفيزيقي للكائن الآدميّ. وفي الحالات التي تُطرح فيها المفارَقة على نحو صريح، كما في عمله "بلد واحد… اتجاهين" الذي نرى فيه دراجتين هوائيتين مرتبطتين بحيث تصير مقدّمة كل واحدة منها بالاتجاه المعاكس، فإننا أمام مفهوم الاختلاف التام بين وعيين وفكرتين عن البلد الواحد نفسه، وهي إشارة صريحة إلى وعي لبنان بنفسه وتاريخه حسب تصوُّرين متعارِضين. أما إطار الكاوتشوك الذهبيّ فهو تأمل بفكرة الحاجيات المادية التي تصير هي نفسها القيمة الإنسانية للكائن، كما شرح ذلك بودريار ملياً في كتاباته عن المجتمع الاستهلاكي. هذه التنصيبات تتراوح بين قراءة وجودية ونقد اجتماعي وسياسيّ، قال الفنان لنا عبرها موقفه من العالم والإنسان.

الشهيد, رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات
PARA-DIS by  Raouf Rifai , Farhat Art Museum Collection


يُحْسَب توزُّع الفنان بين التشخيصية والتجريدية والمفاهيمية (التي أودّ أن أُطلق عليها "المفاهيمية الشيئية" لأنها تعبُّر غالباً عبر الأشياء Objects عن المفاهيم، خلافاً للفن المفهوميّ الذي يذهب إلى الكتابيّ والكتابة وكل ما هو غرافيكي) أمراُ معتاداً اليوم في الفن، لأن الحدود النهائية بين الأنواع والتصنيفات الفنية والجمالية لم تعد ذات بال. ما يسعى إليه المبدعون والمتلقون في هذه اللحظة هو اللمعة البلاستيكية الصافية وحدها مهما كانت طبيعة العمل ومهما كان النوع الذي نصنّفه فيه.
رؤوف رفاعي, مجموعة متحف فرحات
Raouf Rifai , Farhat Art Museum Collection 


[1] La beauté gît dans tout ce qui est l'indéfini et l'indéfinition ; voilà pourquoi les enfants, qui sont toujours imprécis, toujours sont si beaux. La beauté est dans tout inachevé.