Thursday, October 29, 2015

"Tim NORDIN : L’éloquence dans l’ordre" Hussein HUSSEIN

Tim Nordin est un artiste américain, né en 1945 à Jamestown, New York. Il fit de nombreux voyages entre Massachussetts, la Floride, Wisconsin, Minnesota et la Suède avant de finalement s’installer en Californie où il étudia les beaux arts au ‘‘Cerritos College’’ pour que son rêve de devenir artiste s’exauce enfin. Il poursuivit ainsi ses études entre ‘‘California State University’’ au Long Beach et ‘‘Chapman College’’ où il se concentra sur l’imprimerie jusqu'à obtenir un diplôme en art en 1970 et un master de ‘‘Claremont Graduate School’’ en 1972. 
Ses ‘‘Prints’’ distingués ne l’empêcheront pas de s’adonner à la peinture pour y expérimenter ses diverses variétés techniques. Il chevauche ainsi les styles sur différents supports communs, et inhabituels comme le vinyle et le plastique. Sa recherche assidue et sa détermination à atteindre une parfaite harmonie que le support flexible de la toile ne lui offrira pas, le mène vers la surface dure. C’est dans le Plexi et la toile collée sur le bois qu’il s’élance vers une expérimentation intense utilisant des medias comme l’acrylique en majeure partie, l’aquarelle, la bombe aérosol et d’autres encore qui généreront un art non objectif auquel s’adonnera entièrement Tim Nordin.



 La dualité ‘‘Passion-Raison’'
Bien que l’artiste ait lui-même mentionné une influence par Rothko, surtout par la touche lumineuse et transparente, ou la similitude à première vue avec l’Art Optique géométrique, de par la répartition des formes sur la surface ou la vibration des couleurs, à l’instar du graphisme sur ordinateur, où par un quelconque rapprochement des œuvres du mouvement ‘‘ Color Field painting’’, l’œuvre de Nordin reste dans sa finalité, individuelle et répond à des conventions qui lui sont propres et originales. 
Le début des années soixante dix, fut celui de la série de tableaux sur plexi, le résultat devra être vu au revers, et cette technique caractérisée par des formes organiques flottantes, bulleuses et fluides provoque une texture visuelle spectaculaire sur une surface où se créent des forces de tension entres les formes et le fond en contraste avec elles. 




‘‘Mark over marks’’ séries

Ce même langage est décelable dans d’autres œuvres baptisées ‘‘Mark over marks séries’’ où les touches qui semblent simples, s’organisent sur le support qui plus tard sera une surface sur laquelle il applique plusieurs couches de gesso,  où la dernière rendue lisse et polie supporte des traces à structure complexe. Ce clonage organisé de touches, répond à un ordre stricte amorti par les couleurs, la luminosité et l’éclat dont l’œuvre est munie. Sur des formats assez larges, Nordin génère un processus de ‘‘pattern’’ où l’application de la touche par une brosse spéciale, crée un ensemble renfermant action, ordre, fréquence et émotion.
Le rythme crée la stabilité. La répétition calculée, une harmonie métaphysique et spirituelle. Le tout une structure complexe pourtant simple à première vue. Cette manipulation contrôlée et intellectuelle permet à Nordin d’éviter l’imperfection qui sera une distraction pour cet ordre où la force émanant de la simple touche, et reprise sur toute la surface, attribue à l’œuvre sa suprême valeur pour que le centre d’intérêt devienne la totalité du tableau. 
La fluidité cède à la géométrisation, et divise la surface formant des limites diffuses entre les couleurs qui se superposent suggérant la profondeur, une touche dense et opaque s’impose, le rythme vacille à travers des blocks de forme semi géométrique, l’organisation reste, mais moins soumise à un ordre contrôlé. Chaque tâche dépend d’une autre et avec la dernière touche
s’accomplit le tableau.





‘‘Mark series’’

La surface n’est plus nécessairement lisse, les épaisseurs de la peinture moins identiques, la disposition des formes où un espace linéaire symptomatique surgit entre elles évoquant la libération de l’artiste vers une phase plus émotionnelle que logique.
Peintre du vague, de la transparence, de l’éclat et de l’ordre, Tim Nordin, à travers son œuvre minutieuse et intellectuelle explore la spiritualité de l’action et de l’organisation. Les formes cellulaires précoces, fluides et transparentes, finissent par s’opacifier, deviennent plus denses, plus fortes et atteignent une maturité progressive, logique mais émotionnelle.                                
Hussein HUSSEIN
12/06/2015

https://timnordin.wordpress.com/ 

Thursday, October 22, 2015

جوزيه رايمون ليرما: الخروج عن التصنيفات الجاهزة, بقلم شاكر لعيبي

جوزيه رايمون ليرما, المأزق , مجموعة متحف فرحات 

لا يمكن لقارئ أعمال جوزيه رايمون ليرما José Ramón Lerma أن يضعه، بثقةٍ واطمئنانٍ، في تيار أو مذهب فنيّ أو تيار تشكيليّ محدّد. تشير منعرجات وبحوث ومنجزات ليرما أنه يمرق عن التصنيفات الجاهزة، وينتقل مدفوعاً بحوافز التجربة الداخلية من رؤية لأخرى، ومن تقنية إلى أخرى، منذ الخمسينيات حتى اليوم.
صحيح أنه كان في نطاق هذا المجموعة من الفنانين التي تخرجت من معاهد سان فرانيسكو بعد الحرب، سنوات الخمسينيات (هاسل سميث Hassel Smith، إدوارد كوربيت  Edward Corbett وجيمس بود ديكسون James Budd Dixon) والتي وُصفت أعمالها بقربها من التجريدية التعبيرية، لكن ليس من الصحيح تماماً وصف أعماله الخمسينية والستينية بانشغالات هذا الاتجاه وحدها، حتى لو أنها لامسته، من قريب أحياناً أو بعيد أحياناً. 
في الولايات المتحدة الأمريكية، يميل النقد، مُتسامحاً أحياناً، إلى الحديث عن التجارب المتنوعة التي تشترك بالتجريد وبحريّة استخدام التلوين، بمصطلح التجريدية التعبيرية. علينا فيما يخصّ ليرما أخذ خصوصياته الفردية في هذا الإطار، وخاصة اهتمامه منذ ذلك الوقت بتقنية (المواد المختلفة Mixed Media) التي كانت قد ثَبًتت بصفته وسيلة تعبيرية طليعية أكثر مما مضى.

جوزيه رايمون ليرما , القلب المقدس, مجموعة متحف فرحات 

ويبدو أن هذه (المواد المختلفة)، لا تشكل بالنسبة لليرما محض تقنية: إنها تستجيب بعمق لنزعاته الاحتجاجية المتجلية، منذ الخمسينيات، في اقترابه من حركة (ثقافة البييت Beat Culture) أو (جيل بييت) التي كانت تتمظهر على الأصعدة الشعرية والتشكيلية والموسيقية والسياسية، والتي ذهبت إلى العقارات المهلوسة والتحرّر الجنسيّ عبر استفزاز العري والاهتمام بالديانات الشرقية (أنجز ليرما عام 1950 تقريباً لوحة بعنوان "الدعوة إلى محمد" Call To Mohammad) والريبة من الرأسمالية والعناية بالطبيعة والاهتمام بالفضاءات الكبيرة، وكان كلٌّ من ألن غينسبرغ وويليام بوروز William S. Burroughs وجاك كيرواك Jack Kerouac من أهمّ تعبيراتها الأدبية.
تشكيلياً كان الاقتراب من مفاهيم حركة (ثقافة البييت) يتطلب مفاهيم ومعالجات وتقنيات تصويرية غير تقليدية، كانت (المواد المختلفة) واحدة منها بالطبع، لأنها تتفلّت من أمرين: السطح الموحّد والبعدين البصريين (الطول والعرض). قد يقدّم رَفْضُ هذين الأمرين، من جهته، استعارة لرفض السطح الاجتماعيّ الموحّد والأبعاد الثابتة في الحياة. وهنا جوهر ثقافة البييت، وربما جوهر ظهور استخدامات (المواد المختلفة) واسعة النطاق منذ ذلك الوقت.
لقد واظب ليرما على هذه التقنية التي ستتقلب بين جميع أنواع الكولاجات وتوظيف حاجيات ثلاثية الأبعاد على السطح التصويري واستخدام الفوتوغراف والعودة إلى البوب أرت والاستشهاد بأعمال فنانين آخرين (في لوحته "عاصفة الصحراء Desert Storm Box, 1992" يستشهد في آن واحد بالغورنيكا وولادة فينوس والموناليزا) واستخدام الخشب والقصاصات والكتابة، وغير ذلك.

جوزيه رامون ليرما, عاصفة الصحراء

لا يتعلق الأمر بمألوفية التقنية، إنما بدلالة استخدامها وفق رؤية فرديّة: ففي (المواد المختلفة) لسنا البتة في عملية تجميع لمواد مختلطة، إنما، قبل ذلك، بالعملية التوليفية التي تُبْدع من المُخْتلِف كياناً مُؤتلفاً. السطح التقليديّ هو المستهدف في محاولة للإطاحة به وتهشيمه. بعبارة أخرى ثمة مسعى واعٍ لاختراق المبدأ التصويريّ التقليديّ، وهنا سيقع السطح التجريديّ نفسه في مرجعيات التقليدية. قدرة المبصور على الإقناع تظل الفاعل الكبير في (المواد المختلطة) عبر جماع المواد المستخدَمة التي صارت كياناً مختلفاً مغايراً لجميع الوسائط مُنْفرِدَة. من الممكن الحديث بعدئذ عن إصرار ليرما منذ بداياته على التقنية هذه: إنها أحد مداخله الأثيرة لصنع عالمه الحداثيّ، ولاختطاط طريق جماليّ يقطع مع الأنماط التقليدية أو التي صارت تقليدية في الفن.

من الضروريّ التوقف أيضاً عند تجريدياته الخالصة سنوات الستينيات. فهذه التجربة هي من اللحظات التجريبيةً ذات الصفاء بل الشعرية، ولعلها تًمثل مرحلة انتقالية من روح أعمال الفنان الشاب في الخمسينيات إلى ما سيكون نهجه منذ سنوات السبعينيات وما تلاها. حينها ستظهر الكولاجات التي تظلّ تحترم السطح، من دون نتوءات ولا حاجيات ثلاثية الأبعاد. ويظهر انشداد للألوان الصافية، مرة عبر المساحات الهندسية وشبه الهندسية، ومرة عبر اللطخات اللونية التي قد تذكّر المرء بالفعل بالتعبيرية التجريدية. في هذه الفترة عينها ثمة انتباه للحامل الورقيّ الذي تمارس طبقاته المتكوّمة على بعضها نوعاً من مَلْمَس ومن كولاج خاص.

جوزيه رايمون ليرما , مجموعة متحف فرحات 

في السنوات بين 1981 – 1991 ثمة عديد من الأعمال التي تشير إلى معاودة عمل الفنان على سطح أقلّ تعقيداً، للوهلة الأولى، وليس أقلّ اغتناءً، نكاد القول سطحاً صافياً بأقلّ المفردات. سطحاً "منيمال"، رغم خشونة السطوح والحذر أحيانا من الإفراط بـ (المواد) التي يستمر الفنان باستثمارها هنا مع ذلك. وضع الفنان للكثير من لوحاته في هذه السنوات نفسها عنوان (بلا عنوان)، لكنها دون شك تنهمك بالسحريّ والطقوسيّ والغامض. لذا يمكن الحديث عن رمزية ما، تقع دلالاتها في الرغبة بالاستبطان والذهاب أبعد من المرئيّ والمحسوس.
ومثلما أشرنا إلى الدلالة الداخلية العميقة لاستخدام تقنية (المواد المختلطة)، نشير إلى دلالات اكتفاء عدد كبير من الفنانين بعنوان من قبيل (بلا عنوان Untitled) ومنهم ليرما. إن الهدف من ذلك، على ما يبدو، هو ترك معنى العمل طافياً في المجرّد والتجريديّ ليتلاءم مع طبيعته المرئية، طالما تعلق الأمر بعمل ليس (سردياً)، ليس تشخيصياً، وإنْ تضمّن أحياناً هيئاتٍ معروفة للجميع. بدون عنوان إحالة على مفهوم عام، على رؤية شاملة ينطوي العمل البلاستيكيّ عليها، وعلينا نحن المُشاهِدين المساهمة مع الفنان في تلمُّسها والتواصُل معها.

جوزيه رايمون ليرما , مجموعة متحف فرحات 

يمكن أن تُنتج هذه المزاوجة المستمرة بين (المواد المختلفة) و(بلا عنوان)، الأثرَ المأمولَ الذي يريده الفنان: ترك المشاهِد يعيد صياغته الخاصة للمقترَح الذي قدّمه له الفنان، وقد اتخذ الأخير المسافة الضرورية التي تسمح للعمل بأن يتحدّث من فضائه، ويُوْصل رسالته. رسائل ليرما ليست غامضة دوماً، وليست صريحة على طول الخط. إنه يتأرجح في بثّ الرسائل بين الوضوح والالتباس، بين استدعاء أشياء العالم الواقعيّ وإطفائها
من حينها تتعقد تجربة الفنان وتتنوّع مستوياتها. وهو يَتمثّل في حقله الجماليّ تجارب العصر التشكيلية، خاصة التيارات الطاغية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقع الحديث عن تماسه مع البوب أرت والاتجاه المفاهيمي. لا كثير، في تقديري، من الاتجاه المفهوميّ في مسيرة ليرما. هذا الاتجاه لا يتماشي مع همّه في الحقيقة، بقدر ما لا تتماشى قصيدة (عواء Howl and Other Poems 1956) لغينسبرغ Allen Ginsberg سوى مع صرخة احتجاج مفهومة، غير تأملية. ثمة في لوحاته طُرْفة تغمز، من طرف ليس خفياً تماماً، من قضايا العصر الملحّة، غمزة فردية بقدر ما هي جماعية. 
لكن استثمار ليرما للبوب أرت يبدو واضحاً (دون أن يكون فنان بوب أرت)، وينسجم مع الخطوط العامة لمشروعه التشكيليّ. فالمنتجات البصرية الشعبية واسعة الانتشار معزولة في لوحاته عن سياقاتها، ومرتبطة بحاجيات أخرى ليست من طبيعتها، مثل استخدامه للعلم الأمريكيّ ولُعَب تعليم الحساب للأطفال والأيقونات المسيحية الشائعة ونسخ طباعية من اللوحات المعروفة، كالموناليزا، وما إلى ذلك. كل ذلك موصول بشكل خفيّ بالتلويح النقديّ بالطبيعة الاستهلاكية للمجتمع الأمريكي، لكن أكثر من ذلك من أجل تصعيد نزعة طرفوية، تَخْمد في آن واحد أيّ خطاب مباشر وأيّ لون تزويقيّ صارخ. 
وفي هذا السياق علينا أن نفهم استدعاء ليرما للحاجيات اليومية المبتذلة. إنه تذكير بابتذال اليوميّ، وعدم القبول بتشييء العالم. موقف وجوديّ، يستمد طاقته الثقافية، حتى لا نقول الفلسفية من حركات الفكر والفن التي ميّزت الاتجاهات الفنية العالمية منذ الخمسينيات، وتصاعدتْ خاصة في الستينيات من القرن الماضي.
كيف نفهم معارَضة ليرما لفكرة المتاجرة بالفن وجعله سلعة عادية من بين السلع الأخرى؟. هذا الهمّ كان شرطاً حَكَمَ أيضاً جيل ليرما. لقد فهم ذلك الجيل الشرس أن تسليع الفن ينتهي في آخر المطاف بتسليع الفنان، وبالتالي، سلبه الحرية الداخلية التي من دونها لا قيامة للفن برمته. هنا يصير العمل التشكيليّ من جديد عملاً نقدياً، وفق طريقة الفن ولغته وإيحاءاته. ويصير موقفاً من العالم المعاصر ومن الوجود.

جوزيه رايمون ليرما, عذراء فيتنام , مجموعة متحف فرحات 

في مجمل عمل ليرما، فإن الطرفويّ يجاور الكابوسيّ، والرمزيّ يرافق اليوميّ، والطقوسيّ يغدو بعضاً من العالم الحيّ، النشوة تحاوِر الألم، بينما ليست المعجزة سوى محض حلم أو العكس. هذا هو الطابع شبه الثابت الذي يَسِمُ انشغالات ليرما. ونحسب أن هذا الطابع يصدر عن اتصال ليرما، الفنان الأمريكيّ، ثقافياً وروحياً، بإرث أمريكيّ لاتينيّ أيضاً. يبرهن عمله أن مساره الجماليّ كان تقاطعاً معاصراً مُخصَّباً، غير مرئي للوهلة الأولى، بين ثقافتين. ذلك أنه رغم أنه وُلد في كاليفورنيا ودَرَسَ الفن في سان فرانسيسكو وعاش حياتها كلها فيها، فإن هواجس إضافية تتصاعد من ثنايا عمله.
ها هنا تتقدّم الثقافة الأمريكو – إسبانية américano-hispaniques بوصفها رافداً أصلياً في المجتمع الأمريكيّ الحديث. 
لعل ليرما يرمز لتلاقح تشكيليّ أصليّ ناجع، في قارة تكوّنت بالأصل من عملية تلاقح تاريخيّ وجغرافي وسكانيّ.

https://joseramonlerma.wordpress.com/

Friday, October 2, 2015

الأخوان بايير: من الاستشراق إلى سرديات الشرق - شاكر لعيبي


قد لا ينطبق مفهوم الغرائبية exotisme تماماً على أعمال الأخوة بايير. دوماً ما كانت الغرائبية سمة من سمات الرسم الاستشراقيّ. وإذا كانت الأصول اللغوية اليونانية للمفردة لا تفسّر جميع نزوعات الرسم الاستشراقيّ في القرن التاسع عشر، فإنها قد تُلقي بعض الظلال على الممارسة الاستشراقية المتعلقة خاصة بالشرق العربيّ.

لدى اليونان تذهب مفردة إكزوستزم إلى معنى الخارج والغريب، التَوَلّه بكل ما هو غريب، لكنه وَلَهٌ يضع مسافة واضحة مع الغريب وينظر إليه بصفته موضوعاً للفضول والغرابة والتعجّب، وأحياناً الدونيّة المُضِمَرة. في عصر التجارة الدولية عبر البحار ثم في عصر الكولونياليات تَوطَّد، قليلاً، هذا البعد السالب للإكزوتيزم وإنْ تغطى بلبوس الفضول بل محبة الآخر، محبة من نوع خاص، إلا لدى الفنانين الكبار الذين استلهموا، بطريقة حديثة وضمن مشغل مفهوميّ جماليّ خالص، فنون الشرق وأفريقيا مثل ماتيس بالنسبة للفن الإسلاميّ، والانطباعيين بالنسبة للدمغات اليابانية وبيكاسو بالنسبة للفن الأفريقي وغيرهم.
لم يستلهم عموم الرسم الاستشراقيّ الشرق في سياق بحث جمالي حداثيّ محض. ويمكننا تمييز نوعين أساسيين من هذا الرسم في القرن التاسع عشر:
الأول: واقعيّ، إبهاريّ، محفوف بالقليل والكثير من الأوهام الثقافية والإسقاطات الجنسية، وينطلق من صورة ثابتة لشرقٍ متخيّل.
الثاني: أقرب للروح الانطباعية الناهضة نهاية القرن التاسع عشر، الباحثة عن الألوان القوية وتغيرات الظلّ والضوء في مشهد طبيعيّ مضروب بالشمس، وكائنات بشرية بأزياء مزركشة بالنسبة للنساء، وألوان صارخة مُوحَّدة بالنسبة للرجال.

وما بين هذين النسقين ثمة مختلف الأنساق الأخرى التي قد لا تستطيع إلا بصعوبة النهوض وحدها كتيار أو أسلوب متفرّد فريد في الرسم الاستشراقيّ.

مارتن بايير , من مجموعة متحف فرحات

أعمال الأخوة بايير في بداية القرن العشرين، تتأرجح بين هذا وذاك، ولا تُصاب بالأكزوتيكية المُصفّاة لأسباب عدة، أولها تمايز العلاقة التاريخية للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي الثقافة الأمريكية، مع بلدان الشرق: إنها لا تمتلك معها أي علاقة كولونيالية مباشرة في ذلك الوقت. نتائج الأمر على المستوى التشكيلي تؤدّي إلى فارق موضوعيّ مُرْهف بين الاستشراق الأوربيّ ومثيله الأمريكيّ، على مستويات المفهوم النظريّ، البعد السياكولوجيّ والمعالجات البصرية.

فمارتن بابير المولود في شكاغو عام 1894 والمتوفى عام 1961، كان قد ذهب عام 1924 إلى باريس، ولعل لقاءه مع فنانين حديثين مثل بيكاسو وسوتين و كريمين Pinchus Kremeń ( (1890-1981، بين الأعوام 1924 و1940، كان قد منحه مذاقاً مختلفا للفن المعاصر. أما أسلوب بيكاسو فكان معروفاً منتصف عشرينيات القرن العشرين، بينما كان حاييم سوتين يشتغل على تعبيرية عنيفة مذكرا بأسلوب أوجين شيلي أو مودلياني لاحقاً، وكان كريمين تعبيريا بدوره وفي نطاق أسلوب سوتين.
عندما قام مارتن برحلته إلى الجزائر (بين رحلات أخرى إلى إسبانيا وإنجلترا وبلجيكا وهولندا)، كان ذلك قد جعله على مسافة أكيدة واحتراس لكي لا يذهب إلى نسقي الرسم الاستشراقي الموصوفين أعلاه، 
الأخ جورج (George Baer (1895 – 1971، لم يبعد كثيراً عن ذلك، بعد التأثيرات الانطباعية القوية التي تعرَّض لها الأخوان كليهما. خاصة جورج الذي ما زلنا نرى في أعماله، أكثر من أعمال مارتن، لمسة انطباعية تخلى الأخير عنها تماماً.

إن أعمالهما الاستشراقية المعروفة تستلهم قرية الأغواط على أطراف الصحراء الجزائرية. 

مارتن بايير, مجموعة متحف فرحات

إن تنوُّع المشاهد وتباينها، بين الريفيّ والمدينيّ والصحراويّ، في لوحات الأخوين بايير، مثل لوحة مارتن (زُهرة) حاملة الورود، ولوحة جورج (بائعة الخبز)، تفسّر بأن الأغواط (وهي مدينة جزائرية اليوم)، لم تكن محض بلدة صحراوية، فهي تشتهر بالنخيل والبساتين والواحات، وتمتاز مدينتها العتيقة بطابعها العربيّ الذي يعود إلى مؤسسيها الهلالين خلال القرن الحادي عشر الميلادي، والتي قرّر المستعمر الفرنسيّ جعلها منطقة ذات حكم عسكريّ فلم يتدخّل في معمارها الأصليّ كثيراً.
غالبية المشاهد (الرقص العربيّ، مشاهد الجموع البشرية في الأغواط Les chleux، الطفلة خديجة من وهران، القايد عمر بلقاسم.. الخ) تبرهن على أن اختيارهما للمواضيع، مارتن خاصة، وزوايا النظر والمعالجات البلاستيكية، لم يكن محكومة بأي هاجس استشراقيّ زخرفي، تخيلي، إبهاريّ. في هذه اللوحات نحن على مسافة من المفهوم المعتاد للرسم الاستشراقي، بل نحن مع قطيعة معه حتى لو استثمر الرسّام مناخات مشابهة ظاهرياً لفن الاستشراق للتعبير عن هواجسه الجمالية. وفي رأيي لم يعد من مقام، في هذه اللوحات، للحديث عن رسم استشراقيّ. نحن في فن الرسم وحده بكل بساطة.
لا تستهدف غرائبية المشاهد المذكورة إثارة الفضول الإكزوتيكي. فالمشهد فيها تعلة للتعبير الفنيّ، لروح الفنان التي تجد في المشهد وشخوصه بعض ما يثير إشكالياتها الفكرية والجمالية في المقام الأول. 

مارتن بايير, زهرة , مجموعة متحف فرحات

عند قراءة العملين النقديين المعروفين المكرسين للأخوين بايير:"فن مارتن بايير، جورج بايير" (The art of Martin Baer, George Baer) عام 1928، و"كاتلوغ رسوم مارتن بايير، جورج بايير" (A Catalogue of Paintings by Martin Baer, George Baer) عام 1926، يستشف المرء أن النقد الفرنسيّ والأمريكيّ يومها لم يفوت الفرصة للإشارة إلى الطابع الطلسميّ لأعمالهما، لم يصمت عن المقاربة بينها وبين أعمال غوغان في تاهيتي، والمقارنة بينها وبين صوفية الغريكو، ورمزية غوستاف مورو، فهل كان الأخوان متديّنين؟. هل كانا شغوفين بقصص الكتاب المقدّس التي وجداها، لا شعورياً ربما ومن بعيد، في المشاهد الجزائرية وهما في حمى الانشغال بهواجس التعبيرية الألمانية ذات الروح الغامض والكئيب؟.
لم تُناقَش هذه الفرضية، مع أهميتها بسبب بعض الغموض التاريخيّ المحيط بسيرتهما الذاتية ومعتقداتهما الروحية. جميع عناصر أعمالهما تستطيع دعمها من قريب، رغم اللحظة الأوربية التي عُرِفا بها لم تكن لتسمح بإطلاقها بالوضوح الكافي، فاقتصرت على استدعاء الغموض التعبيري والروح السريّ الطاغي فيها الذي يُبْعِدها بوضوح (وهو ما لم يفت على ذلك النقد) عن الأعمال الاستشراقية.

جوهر أعمالهما ذو دفق تأمليّ، روحانيّ بالأحرى، يمكن أن يجعلنا نفكّر، لكن بتحفُّظ وحذر شديدين، بجوهر أعمال جورج روول Georges Henri Rouault (1871-1958) الرسّام الفرنسي المتدين، الكاثوليكيّ، ليس من الناحية الأسلوبية، فشتان بين أسلوبه وأسلوبهما، ولكن لجهة حيرة وغموض وتيه وعذاب شخوصها. شخصيات روول وشخصياتهما في قَدَرِ العذاب Passion نفسه، وفي الغنائية المُعذَّبة عينها.
حتى نساء الأخوين بايير تمتلك بعد الأسى، ولا يمسّها ملمح استشراقيّ بارز، احتفاليّ، شبه أيروتيكيّ معروف كان موضع استعادة دؤوب عند الرسامين المستشرقين.


أكفّ الشخصيات جميعاً خارجة من خشونة جارحة، من عمل داخليّ، ومواقفهما attitudes كذلك، فهي تقف باجتماع غامض، سري، في مكان معتم ضيق، كأنها وقفات قدّيسي الكتاب المقدس في منمنمات الإنجيل الأوربية. لا شيء يختلف في ذلك سوى الأزياء. 
هذه المقاربة لا يمكن أن تكون اعتباطية، ونحن نرى عصا الراعي وخِرافة التي يمكننا رؤية آلاف الأمثلة لها في تاريخ الفن، أليس هذا هو الراعي الطيب نفسه، المسيح؟، ألسنا هنا أمام حَمْل الرب؟. خذ على سبيل المثال موزاييك الراعي الطيب في رافينا Ravenna (Mausolée de Galla Placidia) من القرن الخامس الميلاديّ الذي يُقدِّم المشهد نفسه. ألا يذكر هذا المشهد عينه، على مستوى أسلوبيّ آخر وبشخصيات دينية أخرى، ببعض منمنمات مخطوطة (Madrid Skylitzes ) المحفوظة في مدريد (نحو عام 1070م)؟.
 
لا يصعب الاقتناع بذلك، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المحرّكات اللاشعورية والإرث المسيحي الطويل في الذاكرة الفنية الأوربية والأمريكية. لقد وقع تحويل للمشهد الدينيّ العريق، وقذفه إلى مكان قريب من الشرق وفي مناخاته تحت حجة ممتازة، وفي شروط إنتاج مغايرة، وفي سياق نقديّ لم يكن ليقيم حساباً لمثل هذا التحويل.

من جهة أخرى، لو تأملنا عميقا نساء بايير، لوجدنا غشاوة من الكآبة الوجودية على وجوههن (لوحة جورج "نساء مغربيات أثناء العمل")، ولالتقينا في طبيعته (لوحة جورج "منظر طبيعيّ") نزعة إجمالية، شبه نظامية، ولرأينا كذلك في بعضها الآخر حالة قيامية Apocalyptique (لوحة جورج "البائع") تُذكّرنا دون شك بفنانين اشتغلوا على موضوعات دينية قيامية، قديماً وحديثاً.
تلك الكآبة وذاك النزوع نحو اختصار الطبيعة، وذلك التصوير القياميّ، ليست مستمدة من الاستشراق، إلا بمعنى التذكير بالروايات الدينية عن الشرق. حائكاته وطبيعته وقيامته موجودة في سرديات ليست سردية الوعي الاستشراقيّ. إنها سردية النص الدينيّ المعروف. 

جورج يايير , يائعة الخبز, مجموعة متحف فرحات

لو صحّت القراءة، فنحن أمام طمر نقدي غير متعمَّد للأصل المرجعيّ لأعمال الأخوين بايير، لصالح لحظة كانت منتبهة فقط للجماليات الأكزوتيكية المبحوث عنها يومها بأي ثمن. لحظة تاريخية لعلها كانت تمارس إسقاطا لرغباتها على الثيمات الفعلية التي عالجتها عمليا لوحات الأخوين الأمريكيين.

راقصة الأخوين بايير، قد تكون دليلاً قوياً على مرجعية النص المقدّس. راقصته ليست من شهوانيات نساء الاستشراق. تنعدم الإثارة في وقفتها. نظرتها تنطوي على غموض كبير، وفيها بعض الشرّ. حركة يديها الحادة المتوترة المعوجة تُسْقِط عنها كل رغبة، وتحوّلها إلى كائن رمزي بصيغة أنثى. مشاهدوها من الطبيعة نفسها، بجلستهم ونظراتهم التي تماثل نظرتها. هناك امرأة أخرى في عمق اللوحة تراقب المشهد، وهذه تبدو من الصالحات بثوبها المحتشم والعمل الذي تقوم به. لقد خرجت هذه اللوحة تماماً من عالم الاستشراق، واحتفظت بتعبيرية صافية من طراز ألمانيّ ذات بعد رمزيّ، حتى يمكن للمرء أن يتساءل فيما إذا كان أمام سالومة Salomé العهد الجديد ثانية. وفي الحكاية الشهيرة أنها كانت راقصة بارعة مغناج، وأنها طلبت من هيرودوس الثمل أثناء رقصها أن يقتل يحيى (يوحنا المعمدان Jean Baptiste) ويقدّمه لها في طست من فضة. ألسنا أمام سالومة راقصة الشرق التي استمدت منها عشرات الأعمال الفنية والأدبية، ترقص بين شخصيات ثملة؟. يبدو الأمر محتملاً و قابلاً للتصديق.





.الخلاصة أن أعمال الأخوين بايير تنطلق من لحظة الاستشراق المهيمنة حينها، لتتحايل عليها وهي تُنجز أعمالاً عن قصص الشرق، في إطار البحث الجماليّ الحديث الذي لا صلة كبيرة له بهموم الرسم الاستشراقيّ السائدة.