Wednesday, June 26, 2013

دايفد تيشاوت: من "التعبيرية التجريدية" إلى الصفاء الشكليّ , بقلم الشاعر شاكر لعيبي

David Teachout - القنان  أمام عمله في سانتا كروز كاليفورنيا

لا المسار الشخصيّ، المهنيّ  الفريد الذي اختطه دايفد تيشاوت David Teachout  (ولد عام 1933) طيّاراً في الجيش الأمريكي حتى عام 1950، وتدرُّبه على رعب القنابل النووية، ودراسته وتدريسه للديكور، ولا المواقف المعارضة للحروب، خاصة حرب فيتنام، كافية لتفسير مساره التشكيليّ، والصفاء الشكليّ التجريديّ الذي تتسم به لوحاته منذ وقت مبكر.
وإذا ما شكلت "التعبيرية التجريدية" خلفية قوية للفنان منذ عام 1963، فإنه يتوجب فهم الدوافع البلاستيكية والسياقية لهذه الحركة من أجل فهم المسارات اللاحقة التي تمخضت عنها في أعمال فنانين أمريكيين، تيشاوت من بينهم. 
لم يستطع الفنانون الأوربيون، السورياليون خاصة، المقيمون في أوربا من سنوات الأربعينيات مثل  أنريه ماسون André Masson وروبيرتو ماتتا Roberto Matta توطين حَرْفيّ محض لخبرة ومعطيات السوريالية أو التكعيبية مثلما اختُبِرتْ وأُنجزِتْ في القارة الأوربية. كان الفنانون الأمريكيون يستلهمون من تلك الخبرات أمراً جديدا، وشكلت بالنسبة إليهم محرّكاً داخلياً، نجمت عنه تجارب مختلفة حاولت المزاوجة بين ما لم يُفكِّر الرسّامون الأوربيون إلا قليلاً بمزاوجته: "التعبيرية" التي ظن البعض أنها صارت من إرث الماضي القريب، و"التجريدية" التي صارت راسخة الجذور في التجربة التشكيلية العالمية.  من هذين القطبين طلعت بشكل أساسيّ مدرسة نيويورك école de New York، طريّة، مثقلة بمقترحات جديدة سيكون لها فيما بعد تأثير كبير على الفن المعاصر في العالم. لقد انقسم فنانو مدرسة نيويورك إلى اتجاهين شكليين متكاملين وإن ظهرا متفارقين: رسم إشاري gestuelle ورسم أقرب للنزعة الهندسية. الأول اقترَحَ، انطلاقاً من المفاهيم النظرية، في الأقل، للاوعي والآلية السوريالية "فعل الرسم action de peindre" موضوعا لفن التصوير، حيث سيكون للجسد الآدمي الذي يقوم بعملية الرسم عبر وضعيته الفيزيقية في لحظة الخلق وإشاراته وهواجسه غير المرئية، دور حاسم. وأبرز من يمثل هذا الاتجاه بالطبع جاكسون بولوك Jackson Pollock عبر تقنية التقطير dripping التي تُلخِّص هذه العلاقة مع المعالجة الإشارية، كما لدى رسّامين مثل وليام كوننغ Willem de Kooning وفرانتس كلين Franz Kline وهانز هوفمان Hans Hofmann وروبيرت ماثيرويل Robert Motherwell، مع فوارق أسلوبية شخصية كبيرة. 
عندما كان دايفد تيشاوت عام 1963 يرسم أوائل أعماله التعبيرية التجريدية، كان بولوك قد قدّم عام 1942-1943 مقترحات أولية لتجربة التقطير، ستتطور منذ منتصف الأربعينيات والخمسينيات في لوحاته المعروفة اليوم. أعمال دايفد تيشاوت الستينية ليست في المسار الشكلي والتقنيّ نفسه، وتنحو، على المستوى الكروماتيكي باتجاه العجينة اللونية pâte الموضوعة بشكل كثيف ومسطَّح على السطح التصويري.

الأحمر الممتد 1963, دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات


أما الاتجاه الآخر، الهندسيّ بدرجاتٍ، في مدرسة نيويورك فهو التصوير على مساحات ملونة  (color field painting) حيث الإصرار على تنفيذ أعمال أحادية اللون monochromes تقريبا، لا علاقة لها بعد إلا بعلاقات لونية مُحْكَمَة، وليس العالم الموضوعيّ، حتى لو تمثلت مفاهيم محددة، كونية وصوفية. كان يمثل، بشكل خاص، هذا التيار مارك روثكو Mark Roth وبارنيت نيومان Barnett Newman وكليفورد ستايل Clyfford Still. 


لعبة الورق الشرقية 1967-1968 , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

سيتموضع عمل تيشاوت بين هذين القطبين الجوهريين، طيلة مسيرته. أعماله في سنوات الستينيات هي مسعى لأمرين: التملُّص النهائي من بقايا التشخيصية، أي الهجر النهائيّ للأثر المحاكاتي الخفيف، من جهة، ومن جهة أخرى، هي تمرين على الهندسيّ المُصفّى من كل شائبة. ففي سلسلة أعماله اللاحقة "لعبة الورق الشرقية The Oriental Card Games" ( 1967-1968 زيت على القماش) ثمة انسلاخ كامل إلى تجريدية هندسية لا يمكن أن تُفهم بدقة من دون معرفة أنها مستلهَمة من ألعاب ورق الشرق الأقصى: هناك لعبتا ورق، الأولى يابانية على بطاقاتها صور وعبارات شعرية أو قصائد، مع جسرين (تسمى Uta-garuta).  والثانية تسمى هانافودا Hanafuda = لعبة أو حرب الزهور، حيث على البطاقات صور زهور الفصول، وتُلعب في هاواي أيضا، ويمكن أن يكون الرسام قد تعرف عليها أثناء إقامته هناك. وهي مزينة بأسلوب الفن الصينيّ. سلسلة لوحات الرسام تقوم على أساس شبكة من المربعات التي وقعت معالجة كل واحد منها بدرجات لونية مختلفة، بحيث يمنح مرآها العام الانطباع أننا أمام نسق هارموني gamme متماسك.

من سلسلة السوكل (منطقة في كاليفورنيا)  دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

يتخلى الرسام في سلسلة السوكل (The Soquel Series) عن الشبكة، ويصير المربع مبدأ أيقونياً جوار الخطوط العمودية المستقيمة التي تثير في بعض الأعمال ذكريات الفن البصري optique. وإذا ما تعلق الأمر بقرية سوكل Soquel في كاليفورنيا، فبإمكاننا الافتراض أن المربع هو محض تجريد لعنصر معماري من المنطقة، أو تكثيف تجريديّ لمشهد معماري فيها. أحيانا يظهر خليط من الأزرق والبني الفاتح والأمغر المنطفئين كأنها، دون أن نكون متأكدين، إحالة إلى مادة زجاجية معمارية أيضاً. الأكيد أن فعل الرسم هو الشاغل الحقيقي للرسام، وإن المنحى الذي يتجه إليه يذهب إلى الجوهريّ الواقع، هذه اللحظة، في الشكل الهندسيّ المختلط مع اشتغال كروماتيكي مدروس بعناية. 

عمل تقطيري ,  دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات


لكن الرسام يعود بين الأعوام 1972- 1974 إلى التقطير، كأنه يبرهن لنا أن تأرجُحه بين القطبين المؤثرين المذكورين، كامن بعمق في مكان عميق من ذاته. إن تسمية "التجريدية التقطيرية Dripping Abstraction" هي العنوان العريض الذي يختاره تيشاوت لأعمال هذا العام. لكن هذا التقطير ينطوي بغموض على جميع العناصر الشكلية السابقة التي اشتغل عليها الفنان، ولا يتابع تجارب روّاد التقنية الذين كانوا فيها يضعون للإشاري مكانة كبيرة، لأن بعضهم كان يمارس نوعا من التناضد juxtaposition اللونيّ، الخارج من التقطير وحركة أجسادهم في آن واحد. 
لو فهمنا الإشاري بمعنى كثافة حضور الفعل الفيزيقي للرسام وانطباعه الخفيّ في لوحته، فإن تقطير تيشاوت يمنح للإشاري كثافة أقل، وأكاد أقول حضوراً محسوباً، إذ أن سيلان اللون من الأعلى للأسفل في الغالب في جل لوحات هذين العامين، يعني أن الإشارة jeste كانت مقتضبة ومحسوبة من أجل أن تمنح تأثيرات معينة: خلق خطوط متوازية. إذا كانت خطوطه الهندسية المتوازية في الأعمال السابقة تمتاز بالصرامة، فإنها ترتجف هنا ولا تذهب نحو مساقطها الشاقولية المحتّمة، بل ترقص في الفضاء التصويري، وتخلق نوعاً من النظام الفوضويّ الذي هو الاسم الآخر للبلاستيكية. في هذه الأعمال ثمة محاولة للسيطرة على الصدفويّ وتطويعه لرؤية الفنان المقيمة. 

نافذة , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات
سوف ينحدر تيشاوت من المنظر الكلي إلى الجزئي في أعماله التي تحمل العنوان (نوافذ Windows) 1983-1984. هنا ثمة قطيعة ضمن هذه الاستمرارية القطبية. وثمة في الغالب عودة إلى النزعة الهندسية التي تقطع فجأة من تجربة التقطير السابقة. عنصر واحد يبرز في هذه السلسلة من اللوحات، يعزز بقوة الاعتقاد أن بعض عناصر سلسلة السوكل كانت تقع في النافذة ولا شيء سواها. لقد كانت النافذة هناك غائمة ومغيَّبة المعالم قصداً. هنا تحضر النافذة وحدها بصراحة، في الأقل عبر العنوان الممنوح، لكن الأعمال نفسها قد تقول إن هذا الموضوع ليس سوى ذريعة لعملية الرسم. عموماً يقدّم تيشاوت، بين الأمغر (الأوكر) والأزرق، دراسة للفضاء التصويري الذي يتخذ من النافذة منطلقاً له. تصير النافذة "جغرافيا تشكيلية" يضع فيها الرسام خبرته الأكاديمية، وتجربته العملية المتعلقة بهندسة عمارة البيئة Landscape Architecture (بالفرنسية L’architecture du paysage). النافذة هي البيئة كلها. أنها تضمّ نوعاً من "تخطط معماريّ" يستجلب جماليات المدينة بكاملها.  إنها موقع site مثاليّ لفن الرسم وبيئة environment للرسام، وهي تمنح المناسبة الثمينة حتى لانعكاس المخططات المدينية urban البعيدة على زجاجها. لكنها قبل ذلك كله، وبالتوازي معه، سطحٌ تصويريٌّ عليه كل معضلات الرسم المخصوصة وهواجسه ومفاهيمه.

من مجموعة سانتا كروز , دايفيد تيشاوت, مجموعة متحف فرحات

بألوان أقل توهجاً، يمضي الرسام  بتجربته في سلسلة سانت كروز (The Santa Cruz Series) الممتدة بين الأعوام 1984-1989 والموصولة تلقائياً بالسلسلة السابقة، موسِّعاً من حقل الرؤية وهو يقلب هذه المرة بشكل ديالكتيكي أولوياته فينطلق من الجزئي إلى الكلي، مستحضرا دائما خبرته في عمارة البيئة. هنا ثمة انعكاس ضوئي خافت واقع على عناصر معمارية وبيئية ومدينية بالأحرى، نحدسها ونتخيلها ولا نراها صريحة. بعضها مناظر طبيعية تخلصت من جميع ما يمنع من رؤية طابعها الجوهريّ ومن تلمُّس الألوان القليلة المسيطرة عليها، هذه اللوحات تحديق طويل واختصار لتفاصيل طبيعية أو معمارية وقعت عين الفنان عليها، فظل يصفّي ألوانها إلى الأساسيّ، ويعيد خاصة تركيب درجات هذا الأساسيّ على سطح هندسي منتخَب يمتاز أحيانا بالتناظر المكتمِل مرة، وغير المكتمل مرة، وبلعبة انعكاس المرآة. لعبة المرآة والتناظر هذه، مشغولة باللونين الأزرق والأخضر الموضوعين بحساسية على يد تيشاوت. ومن أجل إطفاء الهندسية الرياضية أدمج الرسام بعض الخطوط lines والخطوط الخارجية outlines الحرة في ثنايا الأعمال.

بين هاته المحطات الكبرى في عمل الرسام الأمريكي ثمة محطتان أخريان تتوجب الإشارة إليهما: سلسلة الدائرة The Circle Series عام 1968، وسلسلة الموج والرياح 1985. السلسلة الأولى تتميز باكتمالها الهندسي وإحالاتها لمعاصري الرسام ومجايليه أو أسلافهم الأوربيين الأقدم قليلاً (كاندنسكي، دولوني). والسلسلة الثانية بقلقها البحثيّ. أحسب أن تيشاوت يسعى إلى التنبيه إلى أن الدوران المحوري الأزليّ للدائرة يمكن أن يتزحزح عبر قوة موجِّهة vector: اللون، وهذا الأمر قد يذكر بتحليل كاندينسكي للعلاقة بين الشكل واللون، لكن السلسلة، حسب رأيي، تتبقى في إطار التجارب الدائبة التي كانت تتلمس النتائج التي توصل إليها تيشاوت لاحقاً، وفيها لا نرى في الحقيقة حضورا للدائرة. بينما سلسلة الأمواج والرياح، فإنها تود تفكيك الحركة التماوجية إلى عناصرها الأولى عبر رسومات صارمة قام بها الرسام (تتشابه مع الرسوم المقدَّمة عادةً لشرح فكرة "زمكان" النظرية النسبية) ثم إلى العناصر الأكثر انفلاتاً، كالغيوم التي تقوم على تكرار عنصر طافٍ بعينه. كلا السلسلتين تشتركان، رغم تباعدهما في الزمن، ببحثهما عن مفهوم وتفكيك الحركة بإطارين شكليين متفارقين.

أن نتائج سنوات نهاية الثمانينيات تستثمر هذه الاختبارات كلها، وتضعها في إطار صار شخصياً، يتميز بالرصانة والتعقيد، والصوت الخافت العميق، سواء على المستوى الكروماتيكي أو مستوى الموضوعات المُنتخَبَة كذرائع لفعل الرسم. يبدو هذا الفعل جذريا بالنسبة للرسام قبل أي أمر آخر، ألا تراه يقول عام 1983: " هناك فكرة عن الرسم، ثم هناك هذه الرسم. الرسم لا يمكن أن يكوْن هو الفكرة عنه، ولكن يجب أن يصبح تجسيداً وتعبيراً وتمظهرا مادياً للإلهام الأصلي"* 


 *
[ There is the idea about the painting, and then there is the painting. The painting cannot be the idea about it, but must become an embodiment, and expression, a physical manifestation of the originating inspiration.] David Teachout


Monday, June 24, 2013

أعمال الفنان قيصر مقداد.. أبعاد ممزوجة بخطوط عامودية

انتصار مدينة , قيصر المقداد, مجموعة متحف فرحات

تحدد الخطوط اللونية العبثية التفاعلات الحركية بين فوق وتحت، وبين اتجاهات تحجب الواقعية وتجرّدها من البنية المتسقة موضوعيا،  وتمنحها الفكرة الاسلوبية المتعاقبة رؤيويا، من حيث المنظور المتلائم مع الضوء،  بوصفه عنصر إضاءة، تمنح اللوحة اشراقة تلطف الخصائص الموتيفية المستخدمة في تشكيل تصاميم تتحكم بالحجم والمساحة،  وتتجاوز عن خصوصية جغرافية، ليتفرد بطابع هندسي جدلي، فيستبعد كل خط فيه الخط الآخر، وكأنه يتكلم بلغة بصرية عن الهندسة الجمالية الداخلية، وانعكاسها على الخارج مكتفيا بخطوط تتشابك، باتساق منطقي مريح للبصر بنيويا وتفكيكيا، فالتجريد عند «قيصر مقداد»  مكتفي بذاته من حيث قوة اللون وتباينه. انسجامه وتضاده، ورمزيته المخفية المعنى بعمق يتراءى ايحائيا، مما يجعلنا نتساءل عن المرئيات المتحركة ببراعة سينوغرافية لائقة ومتزنة،  وتتمتع بكفاءة تجريدية تحليلية ذات مضمون ايديولوجي جغرافي له جماليته وإيقاعه التراتبي من حيث المتناقضات ومن حيث الشكل.
تراكيب جزئية لرؤى ذات صيغة فنية. تشكلت بوصفها بنائية ضبابية اللون. فقد أسبغ عليها «قيصر مقداد» طبقات لونية مختلفة ذات نسب لها طولها الموجي، وخطوطها المرئية الغير قابلة للتغبير، وكأنها أعمدة تحمل المفهوم الجمالي الحسي، بريشة عكست بميتافيزيقية فلسفة «قيصر مقداد» لا شعوريا، فمنحت اللون قوة تغلبت على الفراغ، بل أقامت مع الخط علاقة بين الجزء والكل، لترتبط الأحاسيس بالطبقات الكثيفة للألوان المتعاكسة،  والمتنافرة بتضاد يؤلف جوهرا شكليا، له شفافيته العملية تاركا الفكرة تتجلى في أبعاد مزجها بمنظور ضوئي، يمنح المساحة الجمالية ايديولوجية مرهونة بتجريد متداخل هندسيا مع اللون.

جزر الأزرق , قيصر المقداد, مجموعة متحف فرحات

والخطوط العامودية، المائلة والمتكسرة والمتعرجة، ليبعدنا عن كل قسوة وجمود معتمدا بساطة اسلوبية تختزل من التقسيمات الثابتة، ما هو متحرك بوصفها كتل ذات جمالية تمنح اللغة المرئية نشوة بصرية، لها حضورها الادراكي والحسي، وتؤسس لتآلف متجانس بين الرائي واللوحة، وبين «قيصر مقداد»، مما يخلق لغة حوارية تتسم بالموضوعية وبمرتكزات هندسية لها أسسها التجريدية، وتوازناتها التعبيرية وانسجامها التصميمي مع قياسات الطول والعرض وتباينات اللون. ما من معنى ثابت في أعمال الفنان «قيصر مقداد»، فهو اعتمد على الابعاد الايحائية للتأثر والتأثير، بموضوعية تميّزت بالبعد الجمالي، والهندسة الحسية المتآلفة والمتوازنة مع العقلانية، والتصميم الجيوغرافي والاداء التقني المترائي خلف الشكل اللوني الجمالي، المتماهي مع الاحجام والكتل، والفراغ، والضوء، محاولا بذلك! إيجاد كيان وهمي وإخفاء الواقعية بطبقات تجريدية، ليجعلنا نغرق في البحث عن الدلالة للاشكال أو المجسمات الصغيرة ورمزيتها، وكأننا نفتش عن الرؤية بوضوح أو كأننا نبحث داخل اللون عن الشكل التائه في مخيلتنا، وهذا ما يستفز المتلقي ليتأمل اللوحة بحشرية فنية، محاولا استخراج المعاني الدلالية الكامنة في اتساق الألوان، والخطوط السيمترية، والايقاع الخاص بالملامح الانعكاسية المقترنة بمفهوم الفن وجماليته، والشكل وتقنيته، والبنيوية المستقلة جغرافيا من حيث التلاؤم والازدواجية أو الاسلوب المتناقض القابل للاختزال، وكانه يرسم لوحة داخل لوحة، ومنظور هندسي له ابعاده وسيمتريته المميّزة هندسيا، الخافتة فلسفيا والساطعة على الاسطح مع الألوان الحارة والباردة، والمتباعدة والمتقاربة، الناشطة حسيا وايمائيا، مما يستفز المتلقي على التأمل والتذوق، وهذا ما يحقق التفاعل الفني الخاص.
خصوصية فنية فدّمها وفق خلفيات ذات نقاط حدودية متعددة،  لها «زمكانيتها» تاركا للمربعات والدوائر، والمستطيلات، والاخاديد اللونية لغة حركية تروي بجمالية قصص العالم والحضارات، وكأنه يمارس التكعيبية  والواقعية بتجريد تأثيري له تعبيراته الرمزيه التي تقودنا حيث الحدود النائمة، وكأنه يعري المضمون من الخطوط العامودية بالمسافات الشاقولية، لتظهر الأشكال وكانها تختفي مرئيا، ولنجد ان اللون له سرديته الوظيفية التي تخدم الفكرة والمضمون، والتناسب التشكيلي بين عناصر الفراغ، والعناصر الجزئية المتناثرة هنا وهنا. كما في لوحة «تلوث جميل»، فالأبيض المبلودرامي ما هو الا لطخات فرشاة تغطي كل تلوث بيئي يصدر في مجتمعات بدأت تتصحر، لتظهر انعكاسيا كخطوط عشوائية لألوان مدتها الفرشاة بسماكة لها اهدافها الجمالية والفنية.

بياض ينتظم الفضاء, قيصر المقداد, مجموعة متحف فرحات

زوايا أفقية تتقاطع من خلالها الألوان البصرية، المرئية واللامرئية ضمن ايقاعات منطقية لها جوهرها الميتافيزيقي، التعبيري كوحدات متكاملة وكتل لم تتجاوز الماورائيات، بل حافظت على وجودها في أرض تحتاج للسلام من الشمال والجنوب، والبقاع وصولا لبيروت في لوحات أربعة تجسّد اتجاهات لبنان الأربعة دون أن ينسى «قيصر مقداد» النقطة المحورية للبنان، الا وهي بيروت السلام، فبناءات اللوحة الهندسية ما هي الا لعبة خطوط ومربعات تراكيبية ذات مساحات خضراء، وزرقاء، وبيضاء، فالأسود المتنافر مع الأبيض في لوحة شموخ جبل، كأنه يجمع العناصر الجمالية للبنان في لوحة «فاتنتي الشقراء» والتي جعلتني أدرك ان الفاتنة ما هي الا الوطن المبعثر في خطوطه المتكاثرة، والمجموعة ضمن لوحة هندسية وصفية اتقن «قيصر مقداد» سينوغرافيتها، وسيمتريتها، واتساقها، وتجانسها، واخراجها.
أبجديات نسجها في مساحات أيقظت الحواس والبصر، ووضعتنا ضمن نظام رياضي له ألوانه، وخطوطه، وفراغاته، وعلاقاته الفكرية الانسانية الظاهرة في الاشكال والاحجام، من حيث تباعدها وتقاربها، وتلاشيها، فالنظم المساحية كانها خرائط مرتبطة بالمدن، وتحوّلاتها البيئية وألوانها الاجتماعية والانسانية، وكينونة الفن الهادف الملتزم هندسيا بالمنظور الرياضي للضوء،  واللون، والكتلة، والشكل الهندسي، وكأن «قيصر مقداد» يخطط لتغيّرات زمنية، تجعلنا نعود دائما الى المكان وتطوراته الجغرافية، دون أن ننسى «الحدود النائمة» وتشظيها الكامن بين الخطوط، ولكنه استمد من لبنان مفرداته الجمالية، ووحداته التعبيرية وألوانه التجريدية متنقلا بين درجات اللون الواحد، والفواتح، والغوامق، والاشرافات الفوسفورية المخففة، والتي لم تتخلَّ عن الأسود وبيولوجيته  الفاصلة بين جزئين، وبين مفهومين المضموني والهندسي والوجه الآخر للفن التشكيلي.
أعمال الفنان قيصر مقداد من مجموعة متحف فرحات.
ضحى عبد الرؤوف المل
dohamol@hotmail.com
www.kaissarmekdad.wordpress.com  

Tuesday, June 18, 2013

"The Vietnam War had a great influence in my art and shaping my personality", Long Nguyen

Long Nguyen is an award winning visual artist and actor of over a dozen feature films and episodic television shows. Long is the winner of two "Best Actor" awards. One for "Journey from the Fall" in the 2006 Newport Beach Film Festival and one for the short film "Apsara" in the 2003 California Independent Film Festival. 



Long is also an accomplished artist and has exhibited internationally. Long’s mid-career retrospective exhibition was completed in 2003 at the San Jose Museum of Arts. The retrospective exhibition traveled to the Hillstrom Museum of Art in Minnesota in February of 2005. Long’s paintings are in the permanent collection of the Oakland Museum of Arts, the San Jose Museum of Arts and the Triton Museum in Santa Clara. Among many of his awards, Long was a recipient of the National Endowment for the Arts grant, the Fleishhacker Foundation grant and a two times recipient of the California Arts Council grant.

Bijan Tehrani: You are an artist who has worked in many different fields from painting, sculpting, and acting. How is it that you can work in all these fields and even teach as an art teacher at the same time? How did you manage to do all this?
Long Nguyen: By luck (laughs!) What I mean by luck, is that being any of these things takes a lot of luck. Being an artist, you need a lot of luck to survive; being an actor you need luck to go out, to audition, and as a teacher you need luck to be able to communicate to your students and help them learn. In that sense, I’ve been lucky three times because I’ve been juggling all three. Fortunately for me, it worked out perfectly because they complimented each other. By being a better teacher and communicating better with my students, I learned to be a better actor. By learning to become a better actor and get deeper into the skin of my characters and become more in-touch with my emotions, I became a better artist. In becoming a better artist, you connect with everything else. I’m very lucky that I can finally find a connection between these three art-forms and I can only guess that the connection is inherent in all disciplines.


”Tales of Yellow Skin #6,” 19,Long Nguyen, Farhat Art Museum Collection.

Bijan: Do you think your life is unique because you’ve come from Vietnam and you’ve lived a hard life and witnessed many difficulties? You are not like people who are living in comfort and take life for granted. You know that it’s a precious thing that can be taken away at any moment, so you’ve grown a hunger where you want to tell your stories through different avenues of expression.
Long: Absolutely those events have helped me tremendously in my art, my acting, and my teachings. I think that when you are in situations of hardship like wars, like unemployment, or death in the family, you don’t see any possible benefit because you are too busy suffering and getting through that experience. After surviving those experiences, you find out you have opened some doors that help you to relate to everything else. The Vietnam War had a great influence in my  art and shaping my personality. Without that war, I would be a very different person. Coming to America, surviving as a refugee, making a living, learning English, and surviving a different culture was also a tremendous experience for me. I can’t recommend it to everyone (laughs), but I see a lot of value in that. It’s a mixed blessing; it’s a blessing after you survive it.

Bijan: One thing that I believe is that in the veins of artists who are coming from difficult situations is a better freedom in regards to demonstrating their feelings compared to others that live in comfort. Do you think this is true?
Long: I think experiencing difficulty is inherent in any existence and any circumstance , whether physically or mentally. How we use it in our life make us who we are . Just because I survived the war , doesn’t mean I have more difficulty than anybody, or I can express feeling better. I can only say my personal difficulty is one of the basic foundations of my own creative process.

Oil on Canvas
”Green Night,” 1989, Long Nguyen, Farhat Art Museum Collection.

Bijan: Do you think that people are still interested to hear about oppression and the problems that foreign artists face? Do you think there is any interest in listening to their stories and experiences and to what they want to say? Because I see that the trend in art right now is more towards entertainment. In an entertainment field, many have that approach towards art where they don’t like to hear sad stories.
Long: I think we are all lazy on a universal level. So most of the audiences want to see “fell-good” films, then they complain that “all” films are formulaic and boring. Most of the artists and producers also get caught in the circle of making money and therefore making “safe” films. There is effort to be made from both sides. From the artistic side, specially the foreign artists, I think we can try to understand the “people” better. I have faith that if the artists can reach that universal core in their works, there will be an audience .

Bijan: Do you think that what you are trying to express through your work— with the films that you’ve acted in and your artwork—is not only to tell the story of the past, but to tell what can happen in the future because you’ve experienced many things in your life?
Long: No, I don’t think anyone can do that. On the other hand, everything in life has that universal quality that we can glimpse the possible passage of time thru their development. For example, looking at a bean sprout with its system of seed, stem , root and srouting leaves, one can visualizes the original seed in the past and a mature bean stalk in the future.

Bijan: One thing that you mentioned that was very interesting is your concern over your personal growth. One thing that also makes me worried—I deal with young artists and students as well—is this individualism in an extreme. Some artists become isolated inside their own worlds and they believe that they should only worry about their own situations artistically. How do you see this situation and how it applies to yourself?
Long: You are right, some artists love themselves too much and they stay in their bubble and never learn anything new. I think life is very interesting; it forces you to live in the moment and go from it. It’s basically like presently you just asking me a question; I can play safe by give you a standard answer, or I can listen to your question and give you something really personal in the moment. How much of art is an artist’s feeling inside a bubble, how much of art is the interaction between the artist and the outside world, and how much of art is just the force of life—fate, disaster, and other events that happen outside and inside the bubble that shape one’s life. I’m not sure, but for me I know that it’s not about getting informations and stuffs , it’s about how you live in it and how you feel about it. That is the fuel for our works. 

Bijan: We both come from cultures in which relationships with friends, family members, and neighbors are very close and emotional. One thing that I have noticed about the lives of artists in the United States is that in other countries there are communities for artists that utilize coffee shops and various other hang-outs where they can share their ideas and speak about their work. This helps build a kind of trend, a kind of culture, in that sense. Here, I see that artists are so isolated and it’s rare to see that type of interaction between artists. Do you think that this is something that is missing in the whole world, or mostly here?

Long: I think that is a different advantage. Every situation has its own advantages and disadvantages. In a culture that is very nurturing, the artist gets some types of benefit from that. In another culture where it is very isolated, then the artist gets other types of benefits from that. It depends on the artist; you seek out the environment that is good for you. Sometimes you have no choice, and then you must do the best you can. But in every situation, you can do something—and that is the nature of art. It is very positive in that way, because you don’t need much, one can always start with a pencil and paperI am not denying that there is a problem of isolation; I’m just saying that it can have its advantages. Some people say that prisons are institutes of isolation and are only for people getting punished, but then we have people who seek out places of isolation like temples and in nature to gain peace and to clear their thoughts. It all depends on the individual. I’m not saying that America doesn’t have problems; it’s just a different situation here. It’s not as nurturing as, let’s say Istanbul or Paris, but America has that…myth about it (laughs).

Bijan: I think one thing that I can say, I was saying this about California at least, is that it doesn’t have that many special requirements. You can just pitch up your tent, put up your flag, and be a part of life here with your own identity. That’s a great thing about this place. 
Before I get too far ahead of myself, I wanted to ask you about your future. Are you planning to make any short films, documentaries, or movies as a director?
Long: Not yet, I’m having tons of fun wearing many hats and perhaps too many. The directing hat will have to come after the writing hat.

Bijan: You are a great actor; did you go to any type of school for acting, or did you enter the field without experience?
Long: Well, this tells you something about life. It’s so funny, it threw me a curve ball. I didn’t plan to study acting at all, but in 1992, Oliver Stone had an open call for Heaven and Earth. I went to the open call in San Francisco, and somehow I got a part. That’s how I got my start. I never really had a lot of money to get a sustained training, but I took some night classes and actually learned a lot on the job. I’m very happy that I had this door opened for me through fate.

Bijan: Are there any actors whose work you follow?
Long: I really liked Daniel Day-Lewis. He is truly a master of transformation. He was The Butcher in Gangs of New York and then transformed into an Oil-man in There Will Be Blood. That is the true sign of an artist right there; he doesn’t work all the time, but when he does, he really works. I like many different actors and actresses. How about you?
Bijan: There are so many, but mine might stem from older times; individuals who gave life to the film industry. 

http://farhatculturalcenter.wordpress.com/2013/06/17/long-nguyen-1958/

Monday, June 17, 2013

أعمال الفنان إبراهيم أبو الرب... عقلانية النفس الوطنية الواعية


مجموعة متحف فرحات,  إبراهيم أبو الرب

يثيرالفنان الفلسطيني إبراهيم أبو الرب الانفعالات الحسية لتوترات اللون الفسيولوجي، المرتبط بالاحساس الفعلي الانعكاسي الداخلي، فنشعر بنهوض اللون وارتفاعه وتشابكه، وكأنه كائن حي له حركته النابضة بالقوة والإرادة، وبنظرة حادة تحدد الاتجاه الفكري نحو الهدف، وكأن اللوحة هي مشهد حربي تتضافر فيه القوى الطبيعية مع الانسان، ليحقق الجمال أو النصر أو السلام المحق، لكائنات لونية لها بنية تكنيكية فيزيائية كيميائية، توحي بأشكال متعددة لأشياء داخلية تخضع لرغبات الفنان والمتلقي، وكأنه يحرّض النفس على المجاهدة، لتخضع لإرادة الخط القلق التصاعدي، والمتناقض محاولا التقاط جوهر الفن التشكيلي، وجمالية أساليبه  القادرة على خلق لغة خطابية بصرية خاصة. تدركها الحواس وتضيف للعمل الفني قيمة إنسانية  قادرة على جمع الجمال والمقاييس الفنية في رسالة ذات معاني مؤثرة مقروءة بصريا، بصمت عقلاني يخضع الحركة لتحليل يتناول اللوحة من كل الجهات المعرفية والتكنيكية، كالمضمون والأسلوب والهندسة الوصفية مع أبعادها الخاصة.
تترجم يد الفنان إبراهيم أبو الرب بعقلانية عواطف النفس الوطنية الواعية، فتنهض حتى الضمادات، وتبرأ الجراح من صرخة فرشاة تقرع طبول الألوان على الخطوطـ،  وتسخّر  الاحاسيس الوطنية وتحثها على التجاوب مع الفكرة، كما تسخّر اللون لخدمة الخط حتى ان المتأمل للوحات  أبو الرب لا يشعر بالخط! بل ينفعل مع اللون وضيق مساحة الكتلة المتراصة داخل المنظور الضوئي، وكأنه يجمع البصر في باقة لون شديدة التباين، لنشعر بقوة الفكرة الموجعة لشعب تنهض فيه حتى الدماء التي تسيل في كل مكان، فنشعر بالدم في عروقنا يجري بسرعة متأثرا بما يرى البصر، وبما تدركه الحواس من ترجمة صامتة لكل حركة ملحمية تراجيدية لها ايقاعها السمفوني، الناشط حسيا والقادر على تحريض الخيال، فتتكوّن الأشكال الحسية داخل الذهن ليبدأ العقل بتحليل النماذج اللونية الدفاعية،  ويوضح الايحاءات ويحوّلها الى عناصر توحي بالتكثيف المتراص للخطوط البصرية، ليثير الانتباه الى المتغيّرات الاساسية في القضية الفلسطينية، وقدرة الشعب على مقاومة أي فراغ خارجي قد يؤثر على الترابط والتماسك الداخلي، لكتلة وطنية تشبه الجهاز المناعي في جسد الانسان.

مجموعة متحف فرحات,  إبراهيم أبو الرب

يحاول إبراهيم أبو الرب رسم كل قطرة دماء سالت، ليجعلها تحيا في شرايين لوحة تمتلك ميكانيزمات رؤيوية اسلوبية خاصة، ومضمون مرئي بصري لكتلة متشابكة قوية الحبكة بصريا، ومنسجمة مع بعضها البعض. ضمن مساحة مقعرة ذات أبعاد فراغية بسطها بدقة مظهرا العلاقات المنسجمة مع بعضها والتي تؤكد على تآلف يعتمد على الاتصال والتخاطب، وخلق حوارات بين اللوحة والمتلفي،   وكأن المثيرات اللونية ما هي الا خلايا بارعة التكوين مجهزة بقوة دفاعية مناعية تتكاثر بسرعة كبيرة، ليأخذنا الى ايحاءات استبطنها ليؤكد على إرادة شعب في تحقيق المصير. محاولا احداث تغيّرات في اتجاهات الخطوط اللونية وايحاءاتها المتعددة، وكأنه يصمم مشاهد حرب سينوغرافية ليصوّر مرحلة قادمة متطوّرة هندسيا وفنيا وجماليا، ولها وجودها الواعي والشبيه بالجهاز المناعي وتركيبة دماء عربية أصيلة لها مسراها الخاص، ومعراجها الزمني قبل أن تحقق وجودها الخالي من الأوجاع والضمادت ولون الدماء الأحمر القاني.
خطوط تقارب لها انحناءاتها الجمالية قياسيا ومفعمة بألون متناقضة، وخطوط عامودية مائلة، وكأنها أيادٍ ترتفع لقطف ثمرة تتهافت عليها الارواح القادرة على اختيار ما يستثيرها، لتحقيق الوصول الى هدف غير مرئي، لكنه محسوس ومرتبط بقدرة السماء أو القدرة الالهية الموصولة بالوعي الوجودي، والتفكير الموضوعي المؤدي الى نشوء رؤية لها أهدافها وجمالياتها المؤدية الى تحقيق مهمة انسانية تكشف عن فك عقدة تشبه عقدة الخطوط اللونية المتشابكة في لوحات  أبو الرب.
يحدد إبراهيم أبو الرب المسافات اللونية بدقة فنية قادرة على جمع المنظور الضوئي، وكأن اللوحة مقعرة الشكل رغم تسطحها، لانها تستقطب النظر فيتجه مباشرة الى الكتلة التي يريد الفنان من المتلقي أن يتفكر بها  لتصل الى الفكر مباشرة، ويبدأ تحليلها فالعلاقات المترابطة بين الخط واللون والضوء ما هي الا انعكاس حقيقي، لمجموعة موتيفات شأنها شأن القضية الفلسطينية، لانها كلما زاد احتلال الأراضي الفلسطينية كثر الشعب وارتفعت الأيادي لتمسك بالحق، فالخطوط في لوحات إبراهيم أبو الرب تشبه الألياف البصرية أو تشبه رحلة الدماء في العروق الانسانية الواعية لوجودها، ولنشاطها الفعال وانغماسها في تراب مشبع بالوجع والحقيقة التاريخية التي لا يمكن محوها.


ينظر الفنان الى الفراغ، فيرى وطنه زاخرا بالجمال، فيحدد خارطة اللوحة تبعا لرؤاه، ولفضاءاته الحسية والتعبيرية،  فيصنع كتلة متداخلة هي نسيج شعب يحاكي الفرح والألم، والحزن، والامل والقادر على النهوض بقوة في كل مرة، لتكوين حياة دفاعية تعيد للدم رمزيته الخالدة، فهو يطوي الفواصل، ويتركها كثغرات ضوئية تتنفس منها الألوان الانفعالية المتزايدة بصريا في كل اتجاهات. مما يساعد على اكتشاف ايحاءات بسط إبراهيم أبو الرب سيطرته عليها من خلال الشكل السيميائي المؤثر على الذائقة الجمالية بشكل عام، وهذا ما يجعل الخط يتألق مع تألق الألوان المتباينة، والقوية نسبيا محاولا تحقيق الكمال في صورة مشهدية تستطيع السيطرة على الذهن، فنتعاطف مع الفكرة والرؤية الايحائية، وكأنه يقارع العدو بريشة ولون وخط، ومؤثرات لها سلطتها وجمالياتها الإنسانية الدقيقة فنيا، والمهيمنة تشكيليا على المساحة  وكأن الكتلة لا وزن لها. إنما هي حقيقة تتراءى بابعاد ثلاثية مرسومة بثقة متناهية لها تفصيلاتها السردية المحبوكة برشاقة تقنية، متناقضة مع الحركة ذات الخواص القادرة على رسم اتجاهات معاكسة، وكانه يؤكد على اصرار الشعب الشبيه باشتداد الرياح وهبوبهاـ فالاحساس بالخطوط اللونية المائلة والعامودية تتناسب مع السيمترية التي تبعث على الاستغراب. لأنه يمنح كثرة العدد حشدا ايحائيا، وكأنه ازاء العدو وجها لوجه، فهو يسعى الى ترويض المضمون لخدمة الشكل، وليحاكي الحركات التكرارية  الايقاعية كاشفا عن توالف تأتلفه الحواس، وعن مواجهة فنية يقارع بها فنون العدو القتالية، فهل تتساوى الفنون التشكيلية وأهدافها مع فنون الحرب؟ وهل يمتلك «إبراهيم أبو الرب» موازينا جمالية استطاع تجسيدها في لوحات ترك فيها الإجابة عن كل تساؤل يخطر في فكر المتلقي؟
أعمال الفنان الفلسطيني  إبراهيم أبو الرب من مجموعة متحف فرحات.
ضحى عبد الرؤوف المل
dohamol@hotmail.com 

Monday, June 3, 2013

أعمال الفنان الفلسطيني عدنان يحيى, رسالة فنية إنسانية ممزوجة بالحلم والواقع

حقوق الانسان, عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات

يضعنا «عدنان يحيى» أمام فن يحمل رسالة فنية انسانية ممزوجة بالحلم والواقع والسريالية، والحقيقة التاريخية التي لا يمكن حذفها من ذاكرة فنان ترك في لوحاته لغة سريالية، تعبيرية، بصرية، قوية المعنى ليعترض على انتهاكات لا متناهية داخل لوحات خيالية تضعك امام مرآة الواقع الزمنية. لانها تحمل ثورة نفس تركت الكتلة سابحة في فضاءات عارمة بالحركة  الداخلية والخارجية، فشخوصه من عالمين منفصلين عالم ظالم وعالم مظلوم، فهو يصنف الخير والشر في رؤى حياتية توحي برأس يحيى المذبوح، وبتاريخ توراتي انجيلي قرآني جعله يلتقط الحدث بحس انساني، ليضعه في عمل فني يحمل ابعاده الهندسية واللونية بتوازن سيمتري يتجلى كمقارنة تكتيكية، ورسالة فنية ذات صفات عالية الجودة. لذلك هو يكشف بثقة عن همه الانساني بانفعالية سريالية مدروسة، ليستخرج من الداخل كل فكرة جوهرية راودته، وضعها بوعي هندسي جمالي ضمن عالم فني مستمر بصريا، ليوحي بحس يدخل وجدان اي متلقي. يبحث عن الحقيقة المؤلمة، لشعب انهكته الازمات فبات يبحث عن عقل فاعل تحليلي يلتقط الرمز، ويعتمد تحليل الصورة واضعا العناوين التاريخية، لكل وجه رسمه او تفاصيل مؤلمة اظهرها بروحانية اظهرت الاموات كالاحياء.

عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات

 لانهم شهداء رسمهم «عدنان يحيى» بفرشاة اهتزت بين انامله، وعقل مفكر تأرجح بين الأنا والجماعة. لنشعر بحركة اللون في كل سماء رافقت اعماله، وكأنه يُشهد السماء على الزمن الماضي والحاضر، وعلى صدق كل رؤية هدف من خلالها الى خلق محاكاة تنبع من روح تسعى الى تحقيق عودة جمالية انبثقت من يد تعاني ظلم احتلال طال، وفكر يوقظ المشاعر الهاجعة في نعيم الحياة، لنشعر بالقهر والظلم والاغتراب القسري لانسان انفصل عن وطن. لكنه بث رؤاه وهمومه الانسانيه في رسالة فنية تستهدف اظهار ابشع الممارسات بلغة فنية بصرية، ومشاهد درامية هي جزء من تاريخ يومي يكرر نفسه بنفسه من بداية الكون وحتى الان.
يحاول « عدنان يحيى» اثارة الحس الجمالي في النفس، فيترك للكتلة توازنها البصري وابعادها الفكرية، ليمزجها بنسيج لوني يتوحد معها محاولا اثارة السخط والانفعالات من خلال الرمزية المتأرجحة بين الظل والضوء، والتكرار الايقاعي لسماء الهية ترافق كل معاناة حط غرابها على جثة تجمدت، وهي محتفظة بتعابير آلامها، فالتقاطه للحركة التعبيرية بشكل عام هي هوية فلسطينية يحقق من خلالها قوة تعبيرية عن حقيقة ربما يراها البعض سريالية، لكنها في نفسه حقيقة تؤرخ لأزمنة ستقرأ الصورة كوثيقة زمنية رسخت في ذاكرة الضمير الانساني.

عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات

تنفيث فني خلاق ولفتة لا واعية خرجت لا شعوريا من نطاق عنيف الى مساحات تعالج خطوط الطغاة، وسريالية افعالهم ليفتح آفاق الزمان ويزرع في المخيلة سريالية لا حلم فيها، لكنك تشعر بصدقها وواقعيتها، وكانه يحاول تغيير مفهوم السريالية ليروي الاحداث المكثفة وما جرى من مجازر تاريخية نسمع عنها، ليوقظ الحس والمشاعر الغافية المرتبطة بفن لم يفقد انسانيته، كما لم يفقد قيمة الجمال الهندسي، والتواصل بين الخط والخط والتناغم اللوني المقترن بالتضاد والتنافر والتجاور، وكان اللوحة هي جزء من مشهد سينمائي التقط بكاميرات حديثة تمنح الملمس جمالية لها ابعادها المتناسقة.
دراما تشكلية بمواصفات تقنية وتوزيع ضوئي مرن يجعلنا نرى الظل كالكتلة، له معانيه المختلفة وشدة تماسكه وتباينه، وحقيقة انعكاسه على المعنى، ليترجم حتمية تعترف بعجز التسلط من ردع الانسان عن الاحتفاظ بحقوقه التاريخية والجمالية، والقدرة على الدفاع عن حقوق وضعها في ظاهرة فنية تثبت جماليتها، وتستعيد كل ذاكرة قد يعتدى عليها، كسجل فلسطيني ملوث بالدماء البريئة في يد رجل عيونه شاخصة الى البعيد نحو مستقبل يعيد الحياة لحمامة سلام مذبوحة تتدلى، وظل يعانق الضوء ويمتد مع الالوان المعتمة في اضاءة تمنح البصر الاحساس بفجر سيولد من جديد، فهو اتخذ من السريالية الخيالية منهجا تعبيريا يشطح بنا نحو ايحاءات زمنية متعددة، ومخيلة تساعد على خلق علاقة ترتبط بالواقع السياسي لشعب مقهور معتدى عليه، ليزداد النشاط التخيلي عند المتلقي في كل لوحة مأخوذة مشهديا من انطباعات رسخت في ذاكرة «عدنان يحيى» ويتوق الى تسجيلها زمنيا لتنحصر قوة التأثير الايحائية في حركة استطاع اظهارها من خلال الفراغ، والخط، واللون، والظل، والفضاء المتناسق والمتناغم مع الحدث بشكل عام.
يخلق «عدنان يحيى»  عالما سرياليا متوازيا مع عوالم الواقع، وكأن اللوحة هي فانتازيا لونية مكتوبة بلغة بصرية تتناول حقيقة بناها فنيا في خيال يناقض السريالية، ويتفق معها لانها تجسد حقيقة شعب شبَّ ليحاكي بشتى الطرق قضيته الاساسية، وهي حق وطن لم ينس المجازر البشعة بحق الانسانية في مخيمات ترعرعت على المشاهد الدموية، والانسان التائه عن بقايا جسده واشلائه، مما جعلني ارى الأشكال الفنية بلغة تجريدية بصرية استطاعت تصوير جمادات تضج بالمعاني من خلال نظرة موضوعية شديدة الفهم اصطنعها بعفوية درامية، لتمثيل واقع عايشه  مظهرا ادق التفاصيل الرمزية السريالية والتعبيرية. مثل الوجوه الجامدة والباهتة في تفاصيلها القاسية الخارجة من عالم الشر الملىء بالخطوط والاتجاهات، والنوايا النفسية الخبيثة او في الالوان المتنافرة مع الظل او المنسجمة مع الضوء، لنتعاطف مع كل يد امتدت ولامست الجراح. بل كانه يقول يد الله هي العليا.

الشرق الأوسط, عدنان يحيى 2007, مجموعة متحف فرحات

يقول كاسيرر: «الفن يحول كل الآلآم والهياجات وكل ضروب الجور والمفظعات الى وسيلة لتحرير الذات وبذلك يعطينا حرية داخلية لا نبلغها بطرق اخرى». 
اشراقات لونية خلاقة تجدد المعنى، وتؤكد على وجود فكر يبحث عن انسانية تحافظ على الحقوق البشرية، وعلى احترام الانسان ليحقق بالفن الاحساس الجمالي بقيمة الحياة والسلام والجمال الهادف، لدفع التفكر ولأرشفة لا تمزق فيها تعيد للشهداء حقوقهم الاستشهادية كضحايا حروب ما زالت شواهد قبورهم تشهد ان في قانا او في صبرا وشاتيلا، ليحث الجيل القادم على نبش الحقائق ودفع عجلة التاريخ نحو قول الحق وبارتباط شمولي يوقظ كل غفوة كامنة في ذاكرة لا تعيد الحدث، فهو يحاول الارتفاع بالبشرية الى مستوى انساني صرف يحقق الصحوة والوعي العالمي، لقيمة الانسان وبموازاة رسالة انسانية حملها «عدنان يحيى» كجوهر فني يثير الجدل من خلال المقاييس التي تلتحم مع الفكرة، وتخلق وعيا ذاتيا يمتد الى الفكر والذهن والعاطفة.   ليبدأ كل متلق بتحليل الرموز والالوان، والخطوط، والفراغ، والضوء، وما الى ذلك من عناصر فنية استبطنها واظهرها بتوازن عقلاني وعاطفي، انساني واجتماعي تاريخي ومأساوي مظهرا سمات فنية وفكرية، ليعي العالم ما يضطرم في نفس كل فلسطيني او كل عربي يمتاز بسعة منطقية تعكس حقيقة شمولية تكشف عن واقع حقيقي تعرض له شعب من ديكتاتوريات متعاقبة صورها كجماد حجري يتشقق، ويتناقض بدقة تصويرية بصرية وعفوية لا شعورية تُبرز مكنون وجه سريالي ما زال باللاوعي يقتل كل حمامة سلامة تطير عاليا.
 اعمال الفنان الفلسطيني عدنان يحيى من مجموعة متحف فرحات.

ضحى عبدالرؤوف المل