Thursday, October 22, 2015

جوزيه رايمون ليرما: الخروج عن التصنيفات الجاهزة, بقلم شاكر لعيبي

جوزيه رايمون ليرما, المأزق , مجموعة متحف فرحات 

لا يمكن لقارئ أعمال جوزيه رايمون ليرما José Ramón Lerma أن يضعه، بثقةٍ واطمئنانٍ، في تيار أو مذهب فنيّ أو تيار تشكيليّ محدّد. تشير منعرجات وبحوث ومنجزات ليرما أنه يمرق عن التصنيفات الجاهزة، وينتقل مدفوعاً بحوافز التجربة الداخلية من رؤية لأخرى، ومن تقنية إلى أخرى، منذ الخمسينيات حتى اليوم.
صحيح أنه كان في نطاق هذا المجموعة من الفنانين التي تخرجت من معاهد سان فرانيسكو بعد الحرب، سنوات الخمسينيات (هاسل سميث Hassel Smith، إدوارد كوربيت  Edward Corbett وجيمس بود ديكسون James Budd Dixon) والتي وُصفت أعمالها بقربها من التجريدية التعبيرية، لكن ليس من الصحيح تماماً وصف أعماله الخمسينية والستينية بانشغالات هذا الاتجاه وحدها، حتى لو أنها لامسته، من قريب أحياناً أو بعيد أحياناً. 
في الولايات المتحدة الأمريكية، يميل النقد، مُتسامحاً أحياناً، إلى الحديث عن التجارب المتنوعة التي تشترك بالتجريد وبحريّة استخدام التلوين، بمصطلح التجريدية التعبيرية. علينا فيما يخصّ ليرما أخذ خصوصياته الفردية في هذا الإطار، وخاصة اهتمامه منذ ذلك الوقت بتقنية (المواد المختلفة Mixed Media) التي كانت قد ثَبًتت بصفته وسيلة تعبيرية طليعية أكثر مما مضى.

جوزيه رايمون ليرما , القلب المقدس, مجموعة متحف فرحات 

ويبدو أن هذه (المواد المختلفة)، لا تشكل بالنسبة لليرما محض تقنية: إنها تستجيب بعمق لنزعاته الاحتجاجية المتجلية، منذ الخمسينيات، في اقترابه من حركة (ثقافة البييت Beat Culture) أو (جيل بييت) التي كانت تتمظهر على الأصعدة الشعرية والتشكيلية والموسيقية والسياسية، والتي ذهبت إلى العقارات المهلوسة والتحرّر الجنسيّ عبر استفزاز العري والاهتمام بالديانات الشرقية (أنجز ليرما عام 1950 تقريباً لوحة بعنوان "الدعوة إلى محمد" Call To Mohammad) والريبة من الرأسمالية والعناية بالطبيعة والاهتمام بالفضاءات الكبيرة، وكان كلٌّ من ألن غينسبرغ وويليام بوروز William S. Burroughs وجاك كيرواك Jack Kerouac من أهمّ تعبيراتها الأدبية.
تشكيلياً كان الاقتراب من مفاهيم حركة (ثقافة البييت) يتطلب مفاهيم ومعالجات وتقنيات تصويرية غير تقليدية، كانت (المواد المختلفة) واحدة منها بالطبع، لأنها تتفلّت من أمرين: السطح الموحّد والبعدين البصريين (الطول والعرض). قد يقدّم رَفْضُ هذين الأمرين، من جهته، استعارة لرفض السطح الاجتماعيّ الموحّد والأبعاد الثابتة في الحياة. وهنا جوهر ثقافة البييت، وربما جوهر ظهور استخدامات (المواد المختلفة) واسعة النطاق منذ ذلك الوقت.
لقد واظب ليرما على هذه التقنية التي ستتقلب بين جميع أنواع الكولاجات وتوظيف حاجيات ثلاثية الأبعاد على السطح التصويري واستخدام الفوتوغراف والعودة إلى البوب أرت والاستشهاد بأعمال فنانين آخرين (في لوحته "عاصفة الصحراء Desert Storm Box, 1992" يستشهد في آن واحد بالغورنيكا وولادة فينوس والموناليزا) واستخدام الخشب والقصاصات والكتابة، وغير ذلك.

جوزيه رامون ليرما, عاصفة الصحراء

لا يتعلق الأمر بمألوفية التقنية، إنما بدلالة استخدامها وفق رؤية فرديّة: ففي (المواد المختلفة) لسنا البتة في عملية تجميع لمواد مختلطة، إنما، قبل ذلك، بالعملية التوليفية التي تُبْدع من المُخْتلِف كياناً مُؤتلفاً. السطح التقليديّ هو المستهدف في محاولة للإطاحة به وتهشيمه. بعبارة أخرى ثمة مسعى واعٍ لاختراق المبدأ التصويريّ التقليديّ، وهنا سيقع السطح التجريديّ نفسه في مرجعيات التقليدية. قدرة المبصور على الإقناع تظل الفاعل الكبير في (المواد المختلطة) عبر جماع المواد المستخدَمة التي صارت كياناً مختلفاً مغايراً لجميع الوسائط مُنْفرِدَة. من الممكن الحديث بعدئذ عن إصرار ليرما منذ بداياته على التقنية هذه: إنها أحد مداخله الأثيرة لصنع عالمه الحداثيّ، ولاختطاط طريق جماليّ يقطع مع الأنماط التقليدية أو التي صارت تقليدية في الفن.

من الضروريّ التوقف أيضاً عند تجريدياته الخالصة سنوات الستينيات. فهذه التجربة هي من اللحظات التجريبيةً ذات الصفاء بل الشعرية، ولعلها تًمثل مرحلة انتقالية من روح أعمال الفنان الشاب في الخمسينيات إلى ما سيكون نهجه منذ سنوات السبعينيات وما تلاها. حينها ستظهر الكولاجات التي تظلّ تحترم السطح، من دون نتوءات ولا حاجيات ثلاثية الأبعاد. ويظهر انشداد للألوان الصافية، مرة عبر المساحات الهندسية وشبه الهندسية، ومرة عبر اللطخات اللونية التي قد تذكّر المرء بالفعل بالتعبيرية التجريدية. في هذه الفترة عينها ثمة انتباه للحامل الورقيّ الذي تمارس طبقاته المتكوّمة على بعضها نوعاً من مَلْمَس ومن كولاج خاص.

جوزيه رايمون ليرما , مجموعة متحف فرحات 

في السنوات بين 1981 – 1991 ثمة عديد من الأعمال التي تشير إلى معاودة عمل الفنان على سطح أقلّ تعقيداً، للوهلة الأولى، وليس أقلّ اغتناءً، نكاد القول سطحاً صافياً بأقلّ المفردات. سطحاً "منيمال"، رغم خشونة السطوح والحذر أحيانا من الإفراط بـ (المواد) التي يستمر الفنان باستثمارها هنا مع ذلك. وضع الفنان للكثير من لوحاته في هذه السنوات نفسها عنوان (بلا عنوان)، لكنها دون شك تنهمك بالسحريّ والطقوسيّ والغامض. لذا يمكن الحديث عن رمزية ما، تقع دلالاتها في الرغبة بالاستبطان والذهاب أبعد من المرئيّ والمحسوس.
ومثلما أشرنا إلى الدلالة الداخلية العميقة لاستخدام تقنية (المواد المختلطة)، نشير إلى دلالات اكتفاء عدد كبير من الفنانين بعنوان من قبيل (بلا عنوان Untitled) ومنهم ليرما. إن الهدف من ذلك، على ما يبدو، هو ترك معنى العمل طافياً في المجرّد والتجريديّ ليتلاءم مع طبيعته المرئية، طالما تعلق الأمر بعمل ليس (سردياً)، ليس تشخيصياً، وإنْ تضمّن أحياناً هيئاتٍ معروفة للجميع. بدون عنوان إحالة على مفهوم عام، على رؤية شاملة ينطوي العمل البلاستيكيّ عليها، وعلينا نحن المُشاهِدين المساهمة مع الفنان في تلمُّسها والتواصُل معها.

جوزيه رايمون ليرما , مجموعة متحف فرحات 

يمكن أن تُنتج هذه المزاوجة المستمرة بين (المواد المختلفة) و(بلا عنوان)، الأثرَ المأمولَ الذي يريده الفنان: ترك المشاهِد يعيد صياغته الخاصة للمقترَح الذي قدّمه له الفنان، وقد اتخذ الأخير المسافة الضرورية التي تسمح للعمل بأن يتحدّث من فضائه، ويُوْصل رسالته. رسائل ليرما ليست غامضة دوماً، وليست صريحة على طول الخط. إنه يتأرجح في بثّ الرسائل بين الوضوح والالتباس، بين استدعاء أشياء العالم الواقعيّ وإطفائها
من حينها تتعقد تجربة الفنان وتتنوّع مستوياتها. وهو يَتمثّل في حقله الجماليّ تجارب العصر التشكيلية، خاصة التيارات الطاغية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقع الحديث عن تماسه مع البوب أرت والاتجاه المفاهيمي. لا كثير، في تقديري، من الاتجاه المفهوميّ في مسيرة ليرما. هذا الاتجاه لا يتماشي مع همّه في الحقيقة، بقدر ما لا تتماشى قصيدة (عواء Howl and Other Poems 1956) لغينسبرغ Allen Ginsberg سوى مع صرخة احتجاج مفهومة، غير تأملية. ثمة في لوحاته طُرْفة تغمز، من طرف ليس خفياً تماماً، من قضايا العصر الملحّة، غمزة فردية بقدر ما هي جماعية. 
لكن استثمار ليرما للبوب أرت يبدو واضحاً (دون أن يكون فنان بوب أرت)، وينسجم مع الخطوط العامة لمشروعه التشكيليّ. فالمنتجات البصرية الشعبية واسعة الانتشار معزولة في لوحاته عن سياقاتها، ومرتبطة بحاجيات أخرى ليست من طبيعتها، مثل استخدامه للعلم الأمريكيّ ولُعَب تعليم الحساب للأطفال والأيقونات المسيحية الشائعة ونسخ طباعية من اللوحات المعروفة، كالموناليزا، وما إلى ذلك. كل ذلك موصول بشكل خفيّ بالتلويح النقديّ بالطبيعة الاستهلاكية للمجتمع الأمريكي، لكن أكثر من ذلك من أجل تصعيد نزعة طرفوية، تَخْمد في آن واحد أيّ خطاب مباشر وأيّ لون تزويقيّ صارخ. 
وفي هذا السياق علينا أن نفهم استدعاء ليرما للحاجيات اليومية المبتذلة. إنه تذكير بابتذال اليوميّ، وعدم القبول بتشييء العالم. موقف وجوديّ، يستمد طاقته الثقافية، حتى لا نقول الفلسفية من حركات الفكر والفن التي ميّزت الاتجاهات الفنية العالمية منذ الخمسينيات، وتصاعدتْ خاصة في الستينيات من القرن الماضي.
كيف نفهم معارَضة ليرما لفكرة المتاجرة بالفن وجعله سلعة عادية من بين السلع الأخرى؟. هذا الهمّ كان شرطاً حَكَمَ أيضاً جيل ليرما. لقد فهم ذلك الجيل الشرس أن تسليع الفن ينتهي في آخر المطاف بتسليع الفنان، وبالتالي، سلبه الحرية الداخلية التي من دونها لا قيامة للفن برمته. هنا يصير العمل التشكيليّ من جديد عملاً نقدياً، وفق طريقة الفن ولغته وإيحاءاته. ويصير موقفاً من العالم المعاصر ومن الوجود.

جوزيه رايمون ليرما, عذراء فيتنام , مجموعة متحف فرحات 

في مجمل عمل ليرما، فإن الطرفويّ يجاور الكابوسيّ، والرمزيّ يرافق اليوميّ، والطقوسيّ يغدو بعضاً من العالم الحيّ، النشوة تحاوِر الألم، بينما ليست المعجزة سوى محض حلم أو العكس. هذا هو الطابع شبه الثابت الذي يَسِمُ انشغالات ليرما. ونحسب أن هذا الطابع يصدر عن اتصال ليرما، الفنان الأمريكيّ، ثقافياً وروحياً، بإرث أمريكيّ لاتينيّ أيضاً. يبرهن عمله أن مساره الجماليّ كان تقاطعاً معاصراً مُخصَّباً، غير مرئي للوهلة الأولى، بين ثقافتين. ذلك أنه رغم أنه وُلد في كاليفورنيا ودَرَسَ الفن في سان فرانسيسكو وعاش حياتها كلها فيها، فإن هواجس إضافية تتصاعد من ثنايا عمله.
ها هنا تتقدّم الثقافة الأمريكو – إسبانية américano-hispaniques بوصفها رافداً أصلياً في المجتمع الأمريكيّ الحديث. 
لعل ليرما يرمز لتلاقح تشكيليّ أصليّ ناجع، في قارة تكوّنت بالأصل من عملية تلاقح تاريخيّ وجغرافي وسكانيّ.

https://joseramonlerma.wordpress.com/

1 comment: