بين بيوت النبطيّة وساحاتها
محسن أ. يمّين
بصدور كتابه الجديد "النبطية، ذاكرة المكان والعمران"، في 192 صفحة من الحجم الموسوعي، مطبوعاً في مطابع "شمالي أند شمالي"، يواصل علي حسين المزرعاني خدمته المعرفية لمنطقته، مدينة وقضاء. فمن أصل خمسة كتب اقترنت بتوقيعه حتى الآن، ثمة عنوان واحد عن الجنوب ككّل (فهرست لبنان الجنوبي وجبل عامل، 2012)، وما عدا ذلك فمعقود للنبطية.
الكتاب الممّهد له بكلمة للدكتور أحمد كحيل، رئيس بلدية النبطية، وبمقدّمة للمهندس رهيف فيّاض، رئيس هيئة المعماريين العرب سابقاً (2005-2009)، يندرج في سياق الكتب التي تعتمد الصور، بلوغاً لهدفها، أكثر من اعتمادها على النّص المكتفي بشروحات وإيضاحات مؤطّرة للصور. ومادّته مجدولة ممّا تراكم في أدراج مؤلّفه منذ شروعه في التصوير، وجمع الصور، أو عائدة لمحفوظات عامّة، وخاصة. ولا تتوكّأ على صور المحترفين إلاّ وهي تستند لصور استوديو "بونفيس" لنشر صور النبطية، زحلة ودير القمر، في مفتتح الألبوم، أو على صورة بانورامية للمصّور ماهر غندور أخذها للنبطية، عام 1951، مفلوشة على صفحات أربعٍ بدلاً من اثنتين، مطوية على طريقة "الأكورديون"، كما على بانوراميات أخرى أحدث عهداً، بقصد تتبّع السيرورة العمرانية للمدينة، ورصد اتّجاهات تمدّدها. كل ذلك دون أن تُغفل الصور الجوّية العديدة (وزارة الدفاع اللبناني، وسواها من المصادر). كتاب المزرعاني يحمل في طيّاته صور البيوت التراثيّة المتفاوتة عتقاً، كأطعنها سنّاً: منزل آل فخر الدين، وبيت علي أمين عابدين الصبّاغ، وعلّية نجيب جواد جابر، ودار محسن شميساني، إلى تلك التي تسبق بقليل زحف الباطون، بأنيابه السوداء على هويّتنا المعماريّة المتداخلة فيها عناصر شتّى: موروثة، أو مقتبسة، أو كولونيالية (دار الدكتور بهجت الميرزا، طبيب المدينة الأوّل). وتمشي الصور على ورق الكتاب من حي السراي، إلى حي الميدان، إلى حي البياض، وحارة المسيحيين، متجاورةً على الصفحات، بأكثر ممّا تتجاور على أرض الواقع المرصود، مرفقة بصور أصحابها ومشفوعة بما صمد من وثائق ثبوتيّة ومن مخّلفات الماضي. وتطلّ الساحات، بما تقلّب عليها من أحوال، والسراي والجامع القديم وفندق "زهرة الجنوب" وطلائع موديلات السيّارات وسينما "الريفولي" واستوديو "أيوب" للتصوير. وتستعاد التظاهرات والمآتم ومظاهر الحياة اليومية المجمّدة في اللقطات. سيرة للحجر كتاب المزرعاني، وللّذين كانوا وراء إعلاء مداميك الحجر، للمندلون والليوان واليوك والكواير وفتحات التهوئة والأدراج ولقناطر الداخل والخارج، للشبابيك الواسعة، والسقوف العالية والخشب المدهون بالألوان الصارخة أو الحائلة.
يلتفّ مؤلفه، من خلاله، على الذاكرة المعمارية، التفاف المتسلّقات وأشجار التين على الحيطان التي خرمش عليها الزمن بأظافره. يسجّل بواسطتها اعتراضه على السائد المعماري، معلناً من الغلاف الكرتوني المقوّى، انحيازه إلى الطرّاز الذي كان أسلافنا يتّبعونه ويراعونه، وهم يبنون. يتأسّف على ما تداعى، يفرح لما رُمّم، ويتدارك ما يُخاف عليه. ويصفع بالتفاصيل الحجرية البهيّة وجه الطراز الشائع حالياً، فيما تقارن العين بين الغابر والحاضر، متمنّياً في سطوره وبين سطوره، لو يحدث ما يوقف هذا التناسل اليوميّ الخرافيّ للبشاعة السادّة لمجالات الرؤية في المدن، و الملتهمة لاخضرار الأرياف. سيرة عرف المزرعاني كيف يفيض بسردها
يقظان التقي - 03-02-
2013 النبطية ذاكرة المكان والعمران" عنوان كتاب أنيق، ألبوم مصوّر وموثق إعداداً وبحثاً لعلي حسين مزرعاني لمدرسة وأرشيف مصور عن مدينة النبطية، اثارها وذكرياتها وذاكرتها العربية وماضيها الجميل في حركة أسمائها وأعلامها. مدينة كتب عنها الرحالة إدوار روبنسون الذي زارها العام 1852 ونسج حولها لوحة في كتابه "يوميات في لبنان" باعتبارها عروس الجنوب، كما زحلة عروس البقاع.
"كتب روبنسون "وصلنا النبطية وهي قرية كبيرة في وادٍ فسيح خصب، أو حوض تنزح مياهه للشمال الغربي إلى الزهراني، وفي النبطية سوق تجاري يقام معرض فيه كل اثنين وفي القرية بيتان مؤلفان من دورين، أحدهما لشيخ اقليم بلاد الشقيف والآخر لفلاح فقير". ما يعني ان النبطية كما المدن اللبنانية أو القرى حينها كانت مؤلفة من بيوت ترابية قليلة جداً أو بيوت كثيرة، تحت سقف ترابي واحد ومن طابق واحد. وان سوق الاثنين مستمر فيها منذ مئة وستين عاماً.
صورة النبطية لا تختلف عن صورة زحلة أو راشيا أو راشيا أو دير القمر أو مرجعيون أو حاصبيا أو غيرها من المدن اللبنانية. وفي مقارنة مع صورة لبلدة دير القمر بعدسة بونفيس مؤرخة العام 1880، تبدو دير القمر شبه مدينة، بيوتها المبنية بمجملها حجري الجدران ترابي الاسقف ومن طابق واحد أيضاً وهي صورة أيضاً لمدينة راشيا (أرشيف الأنوار). نسيج معماري لبناني متشابه، يرتبط بالتراب والجذور في نموذج انتشر في القرن الحادي عشر ميلادي وتوسعت الهندسة المعمارية في القرن الثامن عشر فظهرت القناطر الحجرية الداخلية وصارت الأبواب أكثر علواً والمنازل أكثر مرونة في تلبية حاجات أبنائها وساكينها، صورة أخرى عن عمارة جبل لبنان أيام فخر الدين وهي اثبات تاريخي وتجسيد حي لهذه النماذج في المنازل اللبنانية الممتدة من أقصى لبنان إلى أقصاه من الجنوب إلى الجبل والبقاع وإلى بلاد جبيل من بلدات جبرايل وحصرايل وقرية عبود المجاورة لبلدة قرطبا أو قرى في شمال البترون أو قرى أخرى لمن يتصفح كتاب جاك ليجيه بلير "المسكن في لبنان" (دار غوتنير) من باريس العام 2000. ينقل الباحث عن مجلة العرفان (المجلد 25 الجزء الرابع، تشرين الأول 1934) بقلم الشيخ أحمد عارف الزين تحت عنوان "ذكريات من الصيف" كيف تقدمت النبطية في عمرانها من دارين وسراي الحكومة إلى بيوت قرميدية بنيت على أجمل شكل هندسي. وقد بلغ عدد سكانها خمسة آلاف نسمة.
الآن نحو 60 ألف نسمة أو أكثر. وقد تغير دور النبطية وكل التعبيرات المدينية والمعمارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. صور كثيرة بقيت وأخرى تغيرت في كل المستويات في تمدد بلا حدود ولا ضوابط، حدود ابتلعت الوادي الجميل الزراعي والقرية الكبيرة والاقواس الحجرية، والزواريب والحكايا المحفورة وأماكن الذاكرة الجماعية الرئيسية.. وحده سوق النبطية بقي الحدث التاريخي المذهل والإنجاز الثقافي التراثي بامتياز.
عناصر كثيرة يرصدها الكتاب كذاكرة جماعية لناس المدينة إلى أهم أحداثها التاريخية ولا سيما حدث تراثي تاريخي عاشوراء عبر مصاف قرنٍ ونصف من الزمن. لكن اختلفت البيئة. ما عادت النبطية تلك القرية البسيطة الشاعرية في الوادي وحولها الهضاب وذلك النهر المشبع بالحضور المتناغم والعذب والموصول بذاكرة عابرة للحدود وأسماء وأسماء وأسماء، ومجال مفتوح للحراك الوطني القومي التعددي والمتنوع لمختلف التيارات والأفكار السياسية العارمة والمدينة الحنونة على كل المحيط.
في العام 1973، وقفت النبطية وقفة جامعة في تظاهرة عارمة تأكيداً لمطالب مزارعي التبغ، ومن قيام دولة إسرائيل المحتلة دفعت النبطية أثمان وحشية الاعتداءات الإسرائيلية إلى الآن، وفي امتداد مدينة مقاومة طيلة قرن كامل. ما زالت سيرة النبطية المقاومة على حالها. لكنها ما عادت عاصمة الملل والجماعات على تعدديتها ونيابة عن كل الجوار ومركزاً لتجمع العشائر العاملية التي هاجرت كما أيام عهود الاقطاع التي توالت الحكم فترة العهد العثماني.
النبطية التي جعل منها الملك الظاهر نيابة كدمشق والنبطية الناحية التي يرأسها رضا الصلح.. والظاهر يقول الشيخ أحمد عارف الزين "ان النبطية ليست من قرى جبل عامل القديمة وربما لا يتجاوز عهد بنائها القرن التاسع الهجري". للأسف اكتست جمهورية "الباطون" (الاسمنت معظم معالم المدينة وبدل الوجه الايجابي تحول الوجه العمراني إلى وجه "عابس" مع زوال المساحات الخضراء، ومع زوال بيوت تراثية وأدبية وتاريخية لأعلامها الكبار وعائلاتها الكبيرة كمنازل العظماء والمشايخ سليمان ظاهر وأحمد رضا وعبد الحسين صادق والمخترع حسن كامل الصبّاح، ودارة آل الفضل والسراي الحكومية العثمانية ودارة أم رمزي حريبي في حي البياض التي أزيلت العام 2007 وفي غياب ثقافي لم يهتم بالفنون التراثية والآثار المعمارية العثمانية، والشرقية والايطالية. ما عكس تداخل الهويات والاضافات الجميلة ونسيج حياة اجتماعية تعددية كنافذة في منزل وحيد في حارة المسيحيين وأخرى في حي الميدان. كتاب جميل يحاول ان يرمم ذاكرة أو اثر وآخر من ذاكرة تحفر عميقاً في الوجدان الوطني والإنساني الحضاري العام. مادة مصورة تحمل إدراك بواسطة الصورة الفوتوغرافية ويتجلى منه المكان، النبطية بدلالاتها التاريخية ويتجلى المكان والتاريخ ومعها الظواهر المعمارية والاجتماعية والبنيوية ليس فقط كمساحة جغرافية بل إظهار لصورة ومساءلة والتقاط أصداء التاريخ وسبر المعاني ورمزيتها مهديين لعلي مزرعاني في التقاط وتمثيل التحولات المرئية للمدينة وظواهرها الثقافية والاجتماعية. والأهم التأمل في تلك الهندسة الجذّابة إلى زمن جميل بشحنة جمالية معبّرة عن قيم القرية اللبنانية القديمة الجميلة.
No comments:
Post a Comment