مصطفى حيدر , مجموعة متحف فرحات |
تتكسر الخطوط وتتمزق الألوان وتعج بالأشكال والأحجام المنسجمة مع المساحة، فتتراىء الأبعاد المتسقة وفق نظم رؤيوية تعطي الصورة الفنية تألقا جماليا مختلطا بالاحساس الادراكي والاتصال الذاتي بين الفنان وعمله، وبين المتلقي ومشاهد سجلها التاريخ، كما سجلتها ريشة «مصطفى حيدر» لنتأثر بمؤثراته الجمالية من حركة ولون، ومن مضمون يحاكي الانسانية بمنطق الفن، فما يثيره من تأملات صبغها «مصطفى حيدر» بحركة لون وخطوط، ليستفز الانفعالات وكوامن النفس الانسانية، من خلال برودة الألوان الحيادية الغالبة على لوحاته مع نسبة مدروسة من ألوان حارة. تبرز كجزئيات نستشف منها جمال الوحدات الفنية، وانسجامها مع الفكرة والمضمون، بل وتلاحمها مع الاسلوب التقني والفني، لمزج الألوان بتكنيك يتناسب مع دلالية الحركة واتجاهات الخطوط المتعاكسة أو المتقاطعة مع الأركان الأساسية لنسيج اللوحة البنائية، وكأن اللوحة ما هي الا مشهد حي يمتلك الحس المرهف والخيال، والتهويمات اللونية ذات الايحاء البانورامي التكويني المندمج مع رمزية حركة الضوء، فالخطوط المتراكمة ترفع البصر نحو الأبعاد الضوئية والألوان الرقيقة المليئة بالشجن، والعاطفة ومنطق جعله ينسج من مجزرة قانا حكاية الانسان.
قانا مصطفى حيدر , مجموعة متحف فرحات |
يقول عز الدين إسماعيل: «الصورة دائما غير واقعية وان كانت منتزعة من الواقع، لأن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها الى عالم الوجدان أكثر من انتمائها الى عالم الواقع». موضوعية مكانية لزمان تائه في لوحات مؤرشفة مضمونيا في سجلات التاريخ، لكنها في لوحات «مصطفى حيدر» متجددة زمنيا وفنيا، وكأنك في مسار عكسي مع الزمن، فاللوحة تجسّد كل تفاصيل الحدث بسرد لوني وجداني له كتلة تتراكم فيها الخطوط الهندسية، وذاكرة تؤكد على أهمية الفن انسانيا، لما يحمل من رسالة حقيقية هي بمثابة يقين يجعلنا نرى الأبعاد الماورائية لما حدث في قانا.
فواصل فراغية عالقة ما بين الحدث والتاريخ. يعيد من خلالها «مصطفى حيدر» تشكيل كل ما هو مرئي أو متخيّل بأسلوب تصاعدي. متخذا من تكنيكات اللون أبعادا جمالية تسمو مع الفضاءات التخيلية، لتمتزج الفكرة مع العناصر الفنية من خط ولون وفراغات، وضوء، وظل، ومدلولات ايحائية ذات صلة بالحياة الانسانية، وصراع الحياة من خير وشر، وموت وبعث، وجرائم الحروب البشعة التي تجسد ظلم الانسان لنفسه، ولبني جنسه لاخوته في الإنسانية، فتوليفات الخطوط تجمع برمزية المشهد كتعبير عن واقع مؤلم، ظهر في التعتيم الضوئي والظل، والتزاوج والتماثل، والتطابق بين الألوان الباردة والحيادية، والوحدات البصرية المكوّنة للوحة، وتشابك الألوان الغامقة في ثنايا الخطوط والأشكال الهندسية، والتكسرات اللونية المنفصلة والرشيقة ايقاعيا، والمقرونة بقدرة ريشة لها ليونتها في مد الألوان المائية والتحكم بألوان الاكواريل.
مصطفى حيدر , مجموعة متحف فرحات |
ترتبط الاشكال الفنية في لوحات «مصطفى حيدر» بالوعي الفني الذي يسعى الى تقديم فن يقارن ويحاور، القدرة الانسانية على مخاطبة الحواس بالوسائل التعبيرية الفنية التي تحدد بقاء الطبيعة الصامتة، والتجريد الهندسي الملفوف بالغموض، وعوامله الايهامية. كانه يجمع الاجزاء مع بعضها البعض، لتلتحم بالكل وليظهر بشكل ديناميكي الفروقات بين الخير والشر، وبين الحياة والموت، الضعف والقوة، لتندفع الكتل اللونية تصاعديا، وكان الضوء يجذبها نحو الأعلى، ليحدث تحوّلا تبصرية تتشابك فيها الاسس اللونية، والمعايير الفنية من تباين وسطوع متناغم موسيقيا، مع الضوء والفكرة الجوهرية، لجمال الأشكال وأبعادها الهندسية القادرة على محاكاة الطبيعة، بتناسب منطقي يحقق جماليا المعنى الحقيقي للوجود الانساني، فهل يحاول «مصطفى حيدر» مقارنة الإنسان مع الطبيعة وقدرتها البيئية، المحافظة فطريا على جمالية الحياة في حين فشل الانسان؟
تعكس فرشاة «مصطفى حيدر» بعدا إنسانيا جعله يفرض لغته المرئية وأسلوبها الابداعي في مخاطبة الوجدان، بطريقة حسية ادراكية لها مقوماتها الفنية، القادرة على ابراز المضمون في صورة فنية كنواة وطنية. تؤكد على تأمل الحدث المعزز بفراغات لها تساؤلاتها، ومحاكاتها العميقة الجذور، فالعلاقة بين الكتلة واللون وتلاحم الضوء مع الخط يؤصل التكوين التعبيري المؤثر في النفس، والمستوحى من الآلام البشرية وعذاباتها، من تكرار المجازر زمنيا، وكأن التجريد اللوني يخفف من وضوح الصورة الايهامية ومعانيها، لكنه يمنح اللغة البصرية رموزا تجعلنا ندرك فيمة التسامي فوق الجراح، والانفعالات الإنسانية لنعيد للحياة الانسانية معانيها الجمالية بعد كل حدث يصيبنا بقوة الإرادة والأمل، وفي القدرة على بناء حضارة تهدف لابراز الجمال، وقيمة الانسان وقدرته على بناء حضارة ذات جمال فني غني بالدلالات والمعاني والخطوط، والألوان المتحاورة والمتجاورة والمتجانسة جماليا والنابعة من الذات الانسانية.
مصطفى حيدر , مجموعة متحف فرحات |
ارتباط واقعي لمتنافضات فنية تحدد رؤية «مصظفى حيدر» وقدرته على محاكاة الطبيعة الصامتة بقدرة ألوان الاكواريل، والألوان المائية الشفافة المرتبطة بقضايا حقوق الانسان، وقدرته السردية الهادئة والحيادية القريبة من المنطق الفني التشكيلي، وبجمال البيئة وادراك ايديولوجية النشاط الانساني الفعّال في الفن من خلال الأشكال الهندسية المتوازنة مع المنظور الضوئي، وما يحمله من انطباعات تجعلنا نسمو مع الحركة التي تفرض نفسها في مساحة اللوحة، ومع السكون المندمج مع الفراغ، وما ينبثق عنه من تكرار ايقاعي له احاسيسه المختلطة التي توحي بالفرح والحزن، والألم، والجمال، فالخطوط واتجاهاتها البنائية الصاعدة تجعلنا نرتفع فكريا، لنتامل قدرة الفن وعبثيته في اظهار المعاناة الانسانية وجمالية المشاهد الوجودية، لطبيعة محمّلة بالألوان البكر المنبثقة من الطيف الشمسي ومن وجودية تتناقض مع العبثية الخلاقة.
دراما سوسيولوجية عبثيةـ من ألوان مائية حيادية غالبا في لوحات يجسّد فيها مجزرة قانا، ومتباينة بشفافية الأحمر، والأزرق، والأصفر الشفاف في لوحات أخرى، لكنها تتصاعد طوليا حين نقترب من الطبيعة الصامتة أو من الأشكال الهندسية التجريدية تكعيبيا، فدلالاتها الوجودية تضبط إيقاع اللوحة العبثي، لتختلط فيها الأبعاد الفلسفية والمعرفية للمفاهيم الوجودية. مما يجعل المتلقي يتأمل التناقض بين لوحات تبرز الحياة، قوتها! جمالها وألوانها، وبين لوحات تبرز الموت الذي تسبب به الانسان، فالفوضوية العبثية في أعماله لها رمزيتها الجمالية، كما للوجودية أيضا قوتها وايديولوجيتها المنصهرة مع اللون والانماط الفنية الأخرى، ليخلق انعكاسات مؤثرة هندسيا. ترتبط بتفاصيل المفردات الفنية وعناصرها التشكيلية، وسيميائيتها الكوريغرافية التي تثير الذهن، ليرتقي مع فن يحاكي الوجود الانساني من خلال الفن الواعي هندسيا، ولونيا واللغة البصرية المتماهية ميتافيزيقيا مع الأبعاد الزمنية لأمكنة راسخة في الذاكرة التاريخية وما زلنا نراها هناك حيث المكان بدون زمن، وهنا حيث زمنية اللوحة تحاكي الحضارات الآتية.
أعمال الفنان مصطفى حيدر من مجموعة متحف فرحات.
ضحى عبد الرؤوف المل
dohamol@hotmail.com
No comments:
Post a Comment