حقوق الانسان, عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات |
يضعنا «عدنان يحيى» أمام فن يحمل رسالة فنية انسانية ممزوجة بالحلم والواقع والسريالية، والحقيقة التاريخية التي لا يمكن حذفها من ذاكرة فنان ترك في لوحاته لغة سريالية، تعبيرية، بصرية، قوية المعنى ليعترض على انتهاكات لا متناهية داخل لوحات خيالية تضعك امام مرآة الواقع الزمنية. لانها تحمل ثورة نفس تركت الكتلة سابحة في فضاءات عارمة بالحركة الداخلية والخارجية، فشخوصه من عالمين منفصلين عالم ظالم وعالم مظلوم، فهو يصنف الخير والشر في رؤى حياتية توحي برأس يحيى المذبوح، وبتاريخ توراتي انجيلي قرآني جعله يلتقط الحدث بحس انساني، ليضعه في عمل فني يحمل ابعاده الهندسية واللونية بتوازن سيمتري يتجلى كمقارنة تكتيكية، ورسالة فنية ذات صفات عالية الجودة. لذلك هو يكشف بثقة عن همه الانساني بانفعالية سريالية مدروسة، ليستخرج من الداخل كل فكرة جوهرية راودته، وضعها بوعي هندسي جمالي ضمن عالم فني مستمر بصريا، ليوحي بحس يدخل وجدان اي متلقي. يبحث عن الحقيقة المؤلمة، لشعب انهكته الازمات فبات يبحث عن عقل فاعل تحليلي يلتقط الرمز، ويعتمد تحليل الصورة واضعا العناوين التاريخية، لكل وجه رسمه او تفاصيل مؤلمة اظهرها بروحانية اظهرت الاموات كالاحياء.
عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات |
لانهم شهداء رسمهم «عدنان يحيى» بفرشاة اهتزت بين انامله، وعقل مفكر تأرجح بين الأنا والجماعة. لنشعر بحركة اللون في كل سماء رافقت اعماله، وكأنه يُشهد السماء على الزمن الماضي والحاضر، وعلى صدق كل رؤية هدف من خلالها الى خلق محاكاة تنبع من روح تسعى الى تحقيق عودة جمالية انبثقت من يد تعاني ظلم احتلال طال، وفكر يوقظ المشاعر الهاجعة في نعيم الحياة، لنشعر بالقهر والظلم والاغتراب القسري لانسان انفصل عن وطن. لكنه بث رؤاه وهمومه الانسانيه في رسالة فنية تستهدف اظهار ابشع الممارسات بلغة فنية بصرية، ومشاهد درامية هي جزء من تاريخ يومي يكرر نفسه بنفسه من بداية الكون وحتى الان.
يحاول « عدنان يحيى» اثارة الحس الجمالي في النفس، فيترك للكتلة توازنها البصري وابعادها الفكرية، ليمزجها بنسيج لوني يتوحد معها محاولا اثارة السخط والانفعالات من خلال الرمزية المتأرجحة بين الظل والضوء، والتكرار الايقاعي لسماء الهية ترافق كل معاناة حط غرابها على جثة تجمدت، وهي محتفظة بتعابير آلامها، فالتقاطه للحركة التعبيرية بشكل عام هي هوية فلسطينية يحقق من خلالها قوة تعبيرية عن حقيقة ربما يراها البعض سريالية، لكنها في نفسه حقيقة تؤرخ لأزمنة ستقرأ الصورة كوثيقة زمنية رسخت في ذاكرة الضمير الانساني.
عدنان يحيى, مجموعة متحف فرحات |
تنفيث فني خلاق ولفتة لا واعية خرجت لا شعوريا من نطاق عنيف الى مساحات تعالج خطوط الطغاة، وسريالية افعالهم ليفتح آفاق الزمان ويزرع في المخيلة سريالية لا حلم فيها، لكنك تشعر بصدقها وواقعيتها، وكانه يحاول تغيير مفهوم السريالية ليروي الاحداث المكثفة وما جرى من مجازر تاريخية نسمع عنها، ليوقظ الحس والمشاعر الغافية المرتبطة بفن لم يفقد انسانيته، كما لم يفقد قيمة الجمال الهندسي، والتواصل بين الخط والخط والتناغم اللوني المقترن بالتضاد والتنافر والتجاور، وكان اللوحة هي جزء من مشهد سينمائي التقط بكاميرات حديثة تمنح الملمس جمالية لها ابعادها المتناسقة.
دراما تشكلية بمواصفات تقنية وتوزيع ضوئي مرن يجعلنا نرى الظل كالكتلة، له معانيه المختلفة وشدة تماسكه وتباينه، وحقيقة انعكاسه على المعنى، ليترجم حتمية تعترف بعجز التسلط من ردع الانسان عن الاحتفاظ بحقوقه التاريخية والجمالية، والقدرة على الدفاع عن حقوق وضعها في ظاهرة فنية تثبت جماليتها، وتستعيد كل ذاكرة قد يعتدى عليها، كسجل فلسطيني ملوث بالدماء البريئة في يد رجل عيونه شاخصة الى البعيد نحو مستقبل يعيد الحياة لحمامة سلام مذبوحة تتدلى، وظل يعانق الضوء ويمتد مع الالوان المعتمة في اضاءة تمنح البصر الاحساس بفجر سيولد من جديد، فهو اتخذ من السريالية الخيالية منهجا تعبيريا يشطح بنا نحو ايحاءات زمنية متعددة، ومخيلة تساعد على خلق علاقة ترتبط بالواقع السياسي لشعب مقهور معتدى عليه، ليزداد النشاط التخيلي عند المتلقي في كل لوحة مأخوذة مشهديا من انطباعات رسخت في ذاكرة «عدنان يحيى» ويتوق الى تسجيلها زمنيا لتنحصر قوة التأثير الايحائية في حركة استطاع اظهارها من خلال الفراغ، والخط، واللون، والظل، والفضاء المتناسق والمتناغم مع الحدث بشكل عام.
يخلق «عدنان يحيى» عالما سرياليا متوازيا مع عوالم الواقع، وكأن اللوحة هي فانتازيا لونية مكتوبة بلغة بصرية تتناول حقيقة بناها فنيا في خيال يناقض السريالية، ويتفق معها لانها تجسد حقيقة شعب شبَّ ليحاكي بشتى الطرق قضيته الاساسية، وهي حق وطن لم ينس المجازر البشعة بحق الانسانية في مخيمات ترعرعت على المشاهد الدموية، والانسان التائه عن بقايا جسده واشلائه، مما جعلني ارى الأشكال الفنية بلغة تجريدية بصرية استطاعت تصوير جمادات تضج بالمعاني من خلال نظرة موضوعية شديدة الفهم اصطنعها بعفوية درامية، لتمثيل واقع عايشه مظهرا ادق التفاصيل الرمزية السريالية والتعبيرية. مثل الوجوه الجامدة والباهتة في تفاصيلها القاسية الخارجة من عالم الشر الملىء بالخطوط والاتجاهات، والنوايا النفسية الخبيثة او في الالوان المتنافرة مع الظل او المنسجمة مع الضوء، لنتعاطف مع كل يد امتدت ولامست الجراح. بل كانه يقول يد الله هي العليا.
الشرق الأوسط, عدنان يحيى 2007, مجموعة متحف فرحات |
يقول كاسيرر: «الفن يحول كل الآلآم والهياجات وكل ضروب الجور والمفظعات الى وسيلة لتحرير الذات وبذلك يعطينا حرية داخلية لا نبلغها بطرق اخرى».
اشراقات لونية خلاقة تجدد المعنى، وتؤكد على وجود فكر يبحث عن انسانية تحافظ على الحقوق البشرية، وعلى احترام الانسان ليحقق بالفن الاحساس الجمالي بقيمة الحياة والسلام والجمال الهادف، لدفع التفكر ولأرشفة لا تمزق فيها تعيد للشهداء حقوقهم الاستشهادية كضحايا حروب ما زالت شواهد قبورهم تشهد ان في قانا او في صبرا وشاتيلا، ليحث الجيل القادم على نبش الحقائق ودفع عجلة التاريخ نحو قول الحق وبارتباط شمولي يوقظ كل غفوة كامنة في ذاكرة لا تعيد الحدث، فهو يحاول الارتفاع بالبشرية الى مستوى انساني صرف يحقق الصحوة والوعي العالمي، لقيمة الانسان وبموازاة رسالة انسانية حملها «عدنان يحيى» كجوهر فني يثير الجدل من خلال المقاييس التي تلتحم مع الفكرة، وتخلق وعيا ذاتيا يمتد الى الفكر والذهن والعاطفة. ليبدأ كل متلق بتحليل الرموز والالوان، والخطوط، والفراغ، والضوء، وما الى ذلك من عناصر فنية استبطنها واظهرها بتوازن عقلاني وعاطفي، انساني واجتماعي تاريخي ومأساوي مظهرا سمات فنية وفكرية، ليعي العالم ما يضطرم في نفس كل فلسطيني او كل عربي يمتاز بسعة منطقية تعكس حقيقة شمولية تكشف عن واقع حقيقي تعرض له شعب من ديكتاتوريات متعاقبة صورها كجماد حجري يتشقق، ويتناقض بدقة تصويرية بصرية وعفوية لا شعورية تُبرز مكنون وجه سريالي ما زال باللاوعي يقتل كل حمامة سلامة تطير عاليا.
اعمال الفنان الفلسطيني عدنان يحيى من مجموعة متحف فرحات.
ضحى عبدالرؤوف المل
No comments:
Post a Comment